أفياء أمين الأسدي

احد مقابلات حزمة: قصص عن الانتماء,
Original Interview Length:
سجلت هذه المقابلة في: بوردو, فرنسا
فريق الانتاج:
المواد المتوفرة لهذه المقابلة:

أنا الشاعرة العراقية أفياء أمين الأسدي، في الثلاثينات من عمري، ولدت في بغداد، وأسكن حالياً في فرنسا التي وصلتها قبل سنة ونصفتقريباً، إنها بلاد كل ما فيها جميل، لكني لا أعرف لغتها، وتحمل بعض التعصب ضد اللغة الإنكليزية التي أتحدث بها، لكني بدأت أتأقلمنفسياً واجتماعياً، وأحاول تعلم اللغة التي تضيف الكثير من الخبرات على المستوى الثقافي والشخصي. طبعاً تعلم أي لغة هو فتح بابالمعرفة لثقافة البلاد، وتضيف للشاعر كل شيء يحاول أن يعرفه، وأحياناً ما لم يحاول معرفته.

المهم مر الوقت واكتشفت أني لم أحاول تعلم اللغة بشكل جدي، ربما بسبب تنقلاتي الكثيرة، أنا أبحث عن مدينة تشبه بغداد. سكنت فيباريس وليل، المدن الكبرى وجرّبت أكثر من أربعة مدن، ولكني لم أجد الاستقرار النفسي الذي يجعلني أكتب القصيدة وأنا مرتاحة وراضيةعن مكان كتابتها على الصعيد النفسي على الأقل.

هناك الكثير من المدن الرائعة، ولكنها لا تصلح للسكن بالنسبة لي حالياً على الأقل، ربما تصلح للزيارة للسفر ولكن للسكن لا أعتقد، كل المدنغير بغداد باردة وموحشة ولكني قررت القدوم إلى فرنسا من أجل إكمال الماجستير في القانون أو ربما آداب لغة عربية، لست أدري، قررت ألاأقرر تخصص الماجستير الذي أريده. أياً كان الاختيار، فيجب أن يكون لائقاً ببنت قادمة من بغداد تحمل أحلامها.

عندما وصلت ولمدة أشهر عانيت من عسر الكتابة، وهذا أتعبني جداً وأنهكني نفسياً، شعرت باللاجدوى وأني فقدت نفسي، لكنّي أول ماكسرت هذا الحظر بيني وبين نفسي كتبت قصيدة عن اللاجدوى التي شعرت بها وبهذه الطريقة استعدت نفسي.

أن لا أكتب، يعني .. ليس لدي صوت، ومنذ تجاوزت مخاوفي من الكتابة بعد أول قصيدة كتبتها في فرنسا بقيت أفكر أنه إذا نجت قصيدتي يعني ذلك أنني نجوت ونجحت. وبعدها تعرفت على أصدقاء وصديقات فرنسيين يتحدثون الإنكليزية، ونشأت بيننا صداقة جميلة جداً، صداقة من النوع التي فيها الأشخاص يتمنون أن يعرفوا كل شيء عنك وعن بلدك.

اخترت الاستقرار في بوردو، وهي مدينة رائعة جنوب فرنسا، هذه المدينة فيها حميمة الشمس، فيها دفء المكان النفسي والعاطفي، الناسفي هذه المدينة يسألون عن العراق لغرض المعرفة الحقيقية، ربما هوية المدينة وأصالتها وتراثها وأبنيتها العتيقة، حتى مفاتيحها القديمة جعلتهوياتهم الثقافية تحب أن تعرف هوية العراق الثقافية، ويتعرفون على العراق من خلال صديقتهم المقربة، صاروا لا يضطرون للمعرفة منالجرائد، أصبحوا يتصلون بي ويهتمون ويسألون عن أخبار العراق وثقافته وسياسته وكل شيء.

كانوا يسألونني عن عشتار وعن الحدائق المعلقة وأسد بابل وحمورابي واضع أول قانون بالتاريخ، وبعد ذلك يسألون كيف يعيش الناس وسطالأحداث الأخيرة ويرسلون لي أخبار العراق المنشورة في المجلات الفرنسية ويهتمون بشكل حقيقي.

احدى صديقاتي بدأت أعلمها العربية، كانت مسرورة جداً لأنها استطاعت أن تكتب اسمها باللغة العربية، كانت سعيدة كأنها حققت إنجازا. بعضهم حاول تعلم اللهجة العراقية أو الكلمات المميزة منها مثل "شكو ماكو" و "آني زينة" وغيرها… هذا ما جعل التبادل المعرفي متعةوليس سؤالاً، ليس سؤالاً وجواباً، لا يوجد قيود أو قضبان بين الأشخاص.

مرة قرروا بينهم أن يطبعوا مجموعة شعرية لي باللغة الفرنسية وكانت المبادرة فيما بينهم وذلك حدث طبعاً بالصدفة البحتة، راحوا يقرأونقصائدي عندما أرسلت لهم نصوصاً كان قد ترجمها المترجم التونسي د. محمد بن عمرو، نصوص كان هو قد اختارها من صفحتي فيفيسبوك على مدى سنوات، وترجمها كمبادرة جميلة منه وفاجأوني بطباعتها وتوزيعها فيما بينهم، وهذا دفعني بشكل جاد جداً أن أتعلمالفرنسية حتى أترجم الكتب التي لم تصل إلى العربية أو بالعكس أو حتى أكتب بهذه اللغة الجميلة، وإلى الآن أنا أتعلمها.

لا نستطيع القول أننا نتعلم لغة بشكل كامل، نحن عربيتنا لا نعرفها بالكامل! ولكن في كل لغة تحب أن تتعلمها، هناك مفردات ليست بالمفهومالحرفي لها، مفردات تشفرها المجتمعات، تشفرها اللغات، وهذه تحتاج للتعلم بقدر احتياجنا لتعلم اللغة.

فرنسا بلد غني جداً بالثقافات والمعرفة، الثقافات التي تضيف للكاتب على المستوى الشخصي والمعرفي والكتابي، لكن الانتماء الكامللمجتمع غير مجتمعك يا صديقي برأيي مستحيل. لكننا في هذه الرحلات الطويلة نحتاج على الأقل إلى انتماء جزئي، نفسي، عاطفي، فكري،ثقافي، اجتماعي، المهم أن نجد طريقة للتأقلم بأي شكل من الأشكال، يجب أن نحافظ على عقولنا، ونشكل هوية جديدة لا تزيحنا عن هويتناومبادئنا الإنسانية. المبادئ الإنسانية التي تفوق اللغات، التي لا تقف بينها وبين حقيقتها الحدود والخرائط، المبادئ الإنسانية تجاه أنفسناوتجاه الآخرين.

شيئاً فشيئا، أستطيع القول أنا نفسياً مستقرة إلى حد ما، لكنني لو كنت في أجمل مدينة في العالم وأكثرهن إثارة ومتعة سوف أبقى أحملمعي بغداد وأراها عروس المدن وحضارة الدنيا.

أنا الشاعرة العراقية أفياء أمين الأسدي، أسكن في بوردو جنوب فرنسا وهذه قصتي.