يتذكر بادي عبد الله، من قرية العال، تجربة النزوح التي عاشها وهو في الثامنة من عمره إبان العدوان الإسرائيلي على الجولان عام 1967. يقول: "في ظل غياب أبي بحكم عمله، اضطررت للهرب من الحرب والقصف حاملاً أختي الصغرى ذات العامين، في وقت اضطرت فيه أمي لحمل شقيقتي الأخرى، وكنا نتناوب أيضاً على حمل أخي العاجز ونمضي سيراً على الأقدام، نستريح في الكهوف والأحراش في حالة من الخوف والرعب من أصوات القصف والانفجارات. تابعنا طريقنا من جهة وادي اليرموك مروراً بنهر الأردن حتى وصلنا إلى مدينة إربد في الأردن حيث مكثنا لأيام قليلة ثم توجهنا للاستقرار في درعا نظراً لقربها من الحدود الأردنية".
أقام النازحون في درعا بالمدارس والمراكز الشبابية، وبدأت الدولة بتقديم المساعدات اللازمة لهم. لم يقتصر أثر تلك الحرب على الأعداد الكبيرة من القتلى والجرحى والمفقودين والنازحين بل كان لها أعمق الأثر في نفوس من عاشوها. يقول بادي: "آلمني أنّي تركت خلفي كل شيء جميل وتوجهت إلى مصير مجهول، ما زلت أذكر أصوات الطائرات وصراخ الأمهات والأطفال". ويتابع القول: "أنتجت هذه المعاناة جيلاً يشعر بالظلم والقهر ويملك نظرة مختلفة للحياة والبشر، وبعد أن كبرت توصلت إلى قناعة مفادها أن يموت الإنسان دفاعاً عن أرضه خير له من أن ينزح أثناء الحرب، لو كان لدي هذا الفكر وقتها لما تركت أرضي أبداً".
توزّع النازحون بين عدة محافظات بحسب موقع قراهم ومناطقهم، فأبناء القطاع الشمالي لمحافظة القنيطرة توجهوا إلى ريف دمشق بينما نزح أبناء القطاع الجنوبي أو ما يسمى "الزويّة الغربية" إلى درعا. يقول بادي: "بدأ عدد من النازحين بالعمل ليستطيعوا إعالة أسرهم، توظيف أصحاب الشهادات في الدوائر الحكومية بينما اضطرّ الفلاحون الذين لا يتقنون المهن أن يعملوا في البناء وغيره من الأعمال الحرة بأجرة يومية". استمرت فترة إقامة عائلة بادي في المدرسة نحو شهرين، عانوا خلالها من سوء المرافق والازدحام والضجيج لينتقلوا بعدها إلى مدينة دمشق ويقيموا قرابة ستة أشهر في منطقة مساكن الزاهرة بمنزل بلا أبواب أو شبابيك وغير مخدم بالماء والكهرباء، حالهم كحال كثير من النازحين في نفس المنطقة. كانوا يستعينون بأهالي المناطق القريبة لتعبئة "جالونات" الماء ويضطرون لقضاء حاجتهم في أحد بساتين القنب القريبة. انتقلت الأسرة بعدها إلى حي التضامن، واستأجروا غرفة سكن فيها الأب والأم وستة أولاد حوالي سنة ونصف، في الوقت الذي تشاركت فيه بعض العائلات النازحة السكن في غرفة واحدة لتقاسم أجرتها.
في هذه المرحلة، بدأ النازحون يستشعرون أن عودتهم الى ديارهم ليست قريبة، فعملوا على تحسين أوضاعهم، فاشترى بعضهم أراضي في محيط مدينة دمشق وعملوا في الزراعة وبنوا غرفاً ليتخلصوا من تكاليف الإيجار، وهذا ما فعله والد بادي حيث اشترى قطعة أرض في منطقة الحجر الأسود بنى فيها غرفة ومنتفعاتها فاستقرت العائلة في منزلها الجديد، وعاد الأولاد إلى دراستهم وبدأوا بالعودة للحياة الطبيعية.
بقي بادي في حي الحجر الأسود لغاية عام 2012 تنقل بعدها في مناطق بمحيط دمشق مثل مخيم اليرموك وخان الشيح وجديدة عرطوز وعدرا العمالية. كان أغلب سكان الحجر الأسود نازحين من قرى وبلدات الجولان، عاشوا نفس الظروف وتشاركوا في العادات والتقاليد، في وقت شعر فيه بادي بالفرق بين حياة القرية والمدينة. يقول بادي: "كانت الحياة في القرية أكثر بساطة، وكان الناس يملكون وقتاً أكبر للترويح عن النفس على عكس أهل المدن الذين يضطرون للعمل طويلاً لكسب قوت يومهم".
من أكثر الأمور التي تركت أثراً في نفس بادي هو كلمة "نازح" التي استخدمها الناس كنوع من الشتيمة وكأنهم درجة أدنى من البشر، علماً أن النازحين لم يكلفوا أهالي دمشق شيئاً ولم يزاحمونهم على بيوتهم أو أرزاقهم، غير أن تقدمه بالسن وزيادة وعيه ساعدته على تجاوز هذا الموضوع واستطاع تكوين علاقات اجتماعية وصداقات مع أبناء مختلف المكونات والطوائف.