اسمي جورج، تولد دمشق 1993، بدأت دراسة الصيدلة في جامعة حلب، ثم عدت إلى دمشق لأكمل دراستي فيها في الوقت الذي بدأت فيه الأزمة في سوريا، كنت وقتها أعاني من التنقل بين دمشق وحلب،
وأخذت أشعر بالوحدة لأني تركت، التي هي فعلاً من أحلى المدن بالنسبة لي، وأتمنى يوماً ما أن أستطيع الاستقرار فيها. ثم لبيت الدعوات لورشات العمل المجتمعي لأني كنت أشعر بملل بعد أن عدت من حلب، وكنت أشعر بالاكتئاب لأني فقدت كل أصدقائي الذين أحلم بهم في الحياة. المهم ذهبت لحضور ورشة تدريب على برنامج أفلاطون، وبدأت بالتعرف على العمل المجتمعي والجمعيات الموجودة، وشعرت أني فعلاً أستطيع فعل شيء، أستطيع أن أخلق تغييراً في مجتمعي من خلال أن أكون فاعلاً في المجتمع بهذا الشكل. لم أكن أعرف أنني يمكن أن أفعل شيء، بصراحة، كنت أفكر بالخروج من البلد ولكن الشيء الذي جعلني أبقى في الداخل هو خوفي ألا أستطيع الاندماج في المجتمعات الأخرى. فأنا أساساً كنت أعاني من الاندماج في قلب سوريا، إذ أن شعري لونه أحمر، ولهجتي مختلفة عن ما حولي حيث أسكن، كنت أعاني دائماً من التقّبل، فخفت إذا سافرت للخارج أن أواجه ذات المشكلة، والتحدي ذاته وبالتالي لم أحب فكرة السفر. في عام 2018 تم استدعائي للالتحاق بالخدمة العسكرية، فقررت أن أغادر، لأني كشخص يساهم ببناء السلام في مجتمعه لا أستطيع أن أكون مساهماً في حمل السلاح، وأنا أساساً شخص يؤمن باللاعنف في حياته. فتقدمت إلى منحة "شيفنينغ" وقبلت بها، وجئت إلى المملكة المتحدة لأعد الماجستير في الصحة العالمية والعدالة المجتمعية بكلية "كينجز كولج لندن".
من قبل أن أسافر كان لدي هذا الرعب الذي تحدثت عنه من فكرة الاندماج المجتمعي، ومن فكرة التعايش مع مجتمع جديد، وأذكر إلى الآن قبل أني أرسلت إيميل إلى الشخص المسؤول عن السكن وقلت له بالنهاية " ماي دير- عزيزي"، فرد عليذ بإيميل قاسٍ قال فيه: "إن كلمة " ماي دير" يجب أن لا تقولها لأحد مثلي، بل تقولها لشخص أصغر منك أو شخص يعمل لديك". وهنا خفت أكثر، أحسست أن هناك أشياء أفعلها بنوايا طيّبة وهي لا تمثل أي خطأ بالنسبة لي، بالعكس هي أشياء جميلة في الثقافة التي جئت منها لكنها تؤدي إلى انزعاج لدى الشخص الآخر، فأنا صرت مرعوباً أكثر من السفر.
بشكل عام قررت أن الانتماء بالنسبة لي هو انتماء للكرة الأرضية، ليس انتماءً للمجتمع بحد ذاته، أستطيع أن أنتمي لثقافات أكيد، ولكني لست مع التعصب لأي ثقافة أو التعصب بالانتماء لأي مدينة أو لأي بلد، لذلك أنا خرجت متشجعاً لأني أينما سأذهب أستطيع أن أجد أشخاصاً أنتمي معهم للرابط الإنساني أكثر ما أنتمي معهم للرابط الثقافي أو الرابط الاجتماعي. فتشجعت وجئت إلى بريطانيا وقررت أنني لن أنظر ورائي، بل سوف أنظر إلى الأمام، لأني لا أملك أساساً الخيار كي ألتفت وأقول أنا أريد أن أبقى في البلد.
عندما وصلت إلى مكان السكن في لندن، عانيت من بعض التحديات والمشاكل مع الأشخاص بسبب الفروقات الثقافية، فهم يتكلمون عن أشياء لا تعني لي شيئاً، فكان لدي ذلك التحدي ذاته، فأنا أستطيع أن أفكر كيف يمكن أن أساعد، وكيف أستطيع تغيير وجهة نظر الناس عن السوريين، لأنهم أساساً ينظرون إلينا في كثير من الأوقات وكأننا قادمون من الصحراء، ويسألوني ماذا نلبس، ماذا نأكل، أي يفترضون دائماً أننا مثل البدو.
وبدأت بعد ذلك التفكير بالبحث عن أشخاص كبار في العمر، شعرت أنه يمكن لشخص كبير أن يفيدني بخبرات حياته وكيف يعيش الآن. تقدمت إلى شركة تستطيع أن تجمع أشخاصاً من العمر الصغير مع أشخاص من كبار السن حتى يسكنوا سوية، ووجدت شخص ظريف جداً اسمه "نورمن" عمره 92 سنة، وعندما جئت إليه كان يعرف أني سوري وكان متحمس لأني سوري، كان يريد أن يقول لأحد أهلا وسهلاً بك في منزلي، واعتبره بيتك أنت، وخصوصاً إذا كان الشخص قادم من بلد فيها حرب. عندما جلسنا لنتحدث أنا وهو، كانت الأسئلة طريفة للغاية، كان يسألني عن البلد، عن أهلي، عن الوضع الاقتصادي، كما كان يسألني عن الأديان الموجودة في البلد، وهل هم في حالة صراع أم لا. فهو إنسان مثقف بعمق.
أحببت البقاء عند "نورمن" وقلت له: صراحة أنا أحببتك ولدي رغبة بالسكن هنا. وهو قال لي أيضاً: أنا متحمس جداً لقدومك، بالتأكيد أهلاً وسهلاً.
كان مسروراً جداً بالأكل العربي، وأنا أفرح به عندما أطبخ له، كما كنا مسرورين للغاية بالأحاديث الرصينة التي كانت تدور بيننا. أسأله عن نفسه، فيحكي لي قصصاً طريفة عاشها في حياته بشكل عام. لقد ساعدني "نورمن" كثيراً كي أستطيع الشعور أنه من الممكن أن أجد أشخاصاً مناسبين لي في لندن. "نورمن" استطاع أن يفهمني أو يريني أن هذه المدينة الكبيرة فيها الكثير من الأشخاص المختلفين، لا أحد منهم قادم للبحث عن مكان يشبهه، جميعهم يشعرون أنهم يعيشون في مطار. فعلاً هذا التشبيه الذي قال لي إياه عن لندن جعلني أشعر للأسف أن المدينة ليس لها مشاعر انتماء، الناس هنا ليس لديهم مشاعر انتماء للندن إلا إذا عاشوا فيها لمدة طويلة.
أنا حالياً مرتاح أكثر، فأنا أعطي لنفسي الوقت والمساحة، لأستطيع القول أن لندن مدينتي، وأقدر أن أعيش فيها أكثر من ذلك، ولكن قطعاً "نورمن" ساعدني كي أكون مرتاحاً في هذا المجتمع وأقدر أن أعبر عن نفسي، فحين أخطئ بالإنكليزية كان يصحح لي ولا ينزعج مني، على العكس يعلمني ويقول لي هذا الشيء لا يقال بالإنكليزية بهذه الطريقة يجب أن تقولها بشكل مختلف. أنا ممتن جداً لـ "نورمن" وأحببت كثيراً أن أتحدث عنه في هذه القصة لأنه ساعدني لأمشي خطوات إلى المستقبل، وساعدني كثيراً في تحسين حياتي ونقلها من تحت الصفر، لا أريد أن أقول أن حياتي فوق الصفر حالياً لأني أحاول أن أخلق حياة جديدة من هذه التجربة الجديدة.
شكراً جزيلاً لنورمن، وشكراً لكل شخص يسمعني.