أنا جوزيف مقدسي، عمري 29 سنة، سوري مقيم في لكسمبورغ منذ حوالي خمس سنوات، درست هندسة مدنية انشائية، إضافة إلى أني عازف بيانو منذ عشرين عاماً، وأتحدث بالإضافة للغة العربية: الإنكليزية والألمانية والفرنسية نوعاً ما، وحالياً أتعلم اللهجة اللكسمبورغية.
جئت إلى لكسمبورغ بقصد الدراسة أولاً ثم العمل ثانياً، وعن طريق البحر مثلي مثل كل اللاجئين بذات الطريق، ومثلي مثل أي شخص لا بد بالبداية أن أتلقى المساعدة من أحد، وكان هناك شخص وهو صديق للعائلة موجود قبلي في لوكسمبورغ، هو الذي استقبلني في محطة القطار منذ لحظة وصولي، وساعدني بالبداية إلى أن وصلت إلى سكن اللجوء الذي تم فرزي إليه، وبقيت على تواصل معه.
وبعد ما استقريت في سكن اللجوء حتى بدأت رحلتي مع اللغة، بدأت أتعلم اللغة الفرنسية، لأنها كانت لغة مهمة جداً في البلد، وأثناء هذه الفترة كان هناك عرض موسيقي محلي لفرقة لوكسمبورغية في سكن اللجوء الذي كنت فيه، وأثناء انشغال الفرقة بالحديث مع الناس بعد انتهاء العرض، انتهزت فرصة وذهبت إلى البيانو وجلست وبدأت أعزف، وهنا حدث تفاعل كبير جداً للحضور الذي كان موجوداً، وكانت الفرقة المحلية تراني أيضاً وتسمع عزفي، وقد وقفت متفاجئة جداً بالشيء الذي كان يحدث.
لقد كان هدفي أن أعزف فقط، لم يكن لدي أية غاية أخرى، ولكن التفاعل كان كبيراً جداً، وبهذه الأثناء خلال الفترة التي كنت أعزف فيها، كان ثمة شخص يراقبني، كان لكسمبورغياً، لم أكن أراه ولكن لاحقاً علمت بالأمر، هذا الشخص كان مسؤولاً عن معهد للموسيقى والفنون، وهذا المعهد تابع للصليب الأحمر، وهذا الشخص أعطاني أول فرصة لأدخل إلى المجتمع الغربي وأندمج فيه أكثر. بداية لم يكن يعرف كيف يصل لي فترك لي خبراً عن طريق مكتب المساعدة الاجتماعية، وتم ابلاغي بضرورة أن ألتقي هذا الشخص.
وأنا فعلاً ذهبت للقائه، وكان هذا الشخص امرأة، سيدة رائعة جداً، كانت مسؤولة عن هذا المعهد، وأعطتني فرصة لتدريس البيانو في هذا المعهد، وقبلت العرض بكل رحابة صدر. وبعد فترة شهرين من بدايتي في المعهد أعطتني أيضاً فرصة ثانية لأعزف الموسيقى للمجتمع اللكسمبورغي، بسبب وجود عرض موسيقي لجميع الأساتذة الموجودين في المعهد وكنت أنا منهم، وغامرت أن أقدم موسيقى جديدة على هذا المجتمع. تم التنفيذ بلحظة العرض دون أي تدريب مسبق، وهنا كانت المفاجأة، وهي أن الناس أحبت العمل وطلبوا مني أن أقدم أكثر، طلبوا مني زيادة، والمدة التي كانت محددة لي كانت حوالي 10 دقائق، لكنها مددت حتى 20 دقيقة، لقد كانت فرصة جميلة جداً لي.
ثم بدأت رحلتي مع الدراسة، وبعد سنة من بدايتها ولسبب اضطراري كان يجب أن أغادر السكن الجامعي وأبدأ بالبحث عن سكن جديد، وكان الحل الوحيد لصعوبة إيجاد سكن في لكسمبورغ هو أن أتحدث مع مديرة المعهد الذي كنت أعمل فيه، وبالفعل قدمت لي ثاني فرصة، وهي أن أعيش مع عائلة لكسمبورغية مؤلفة من أم وابنها. كان الابن مسؤولاً ثقافياً في لكسمبورغ، وكنا نتشارك أنا وهو حبنا للموسيقى، وتحديداً العزف على البيانو، وكان هناك كثير من القبول والارتياح في المقابلة بيننا، خصوصاً عندما اكتشف أني شخص منفتح وعندي الرغبة للدخول إلى المجتمع اللكسمبورغي وأني أحترم هذه الثقافة.
ومع أن هذا الشخص "مثلي" وهو شيء غير مقبول في المجتمع الشرقي، ولكني تقبلت هذا الوضع، احترمته فهذه حياته الخاصة، وهكذا كانت البداية، بداية حياة جديدة مع هذه العائلة. بالمقابل عن طريقي استطاعوا أن يتعرفوا على نمط الحياة السورية، وعلى الثقافة السورية. وخلال فترة اقامتي مع هذه العائلة، كنت كأني ابن لها، لم أعامل كشخص غريب أو لاجئ أو مجرد شخص مستأجر، بالتأكيد لا، فقد تعرفت على أصدقاء هذا الشخص وكانوا من طبقة راقية جداً ومحترمين جداً، ونلت احترامهم ومحبتهم بسبب ثقافتي وانفتاحي على هذا المجتمع، وكوني استطعت أن أندمج فيه بطريقة صحيحة، وبالمقابل استطعت أن أوصل لهم فكرة عن الثقافة السورية، إن كان عن طريق الطعام السوري، أو إن كان عن طريق حديثي عن بلدي.
كان لدي الرغبة أن أتعلم أكثر وأكثر، ورغبة أن يعرفوا عن مجتمعنا أكثر، فكان هناك نوع من تبادل الثقافات، فقد كنا نغني مع بعضنا، هو كان يحاول أن يغني مع الموسيقى الشرقية، وأنا أغني مع الموسيقى الغربية، وهذا ما جعلنا قريبين من بعضنا أكثر ونتعامل كأخوين. وكما كنا مع بعضنا البعض في لحظات الفرح، كذلك في لحظات الحزن لم يتركوني، ففي الوقت الذي وصلني فيه خبر وفاة خالي الوحيد لم يتركوني، كانت الأم وابنها إلى جانبي وساعدوني كثيراً لأتجاوز هذه الفترة الصعبة.
أخيراً أقول لكم: صحيح أنه كان هناك صعوبة، لم يكن هناك شيء سهل ولكن بالنهاية استطعت أن أندمج أكثر بهذا المجتمع وأتعلم منه أكثر.
أنا جوزيف مقدسي من لكسمبورغ وهذه كانت قصتي.