أنا رنا ثريا النقشبندي، من مواليد دمشق عمري 62 سنة، ربما يبدو عمري كبيراً جداً، ولكن برأيي أننا نعيش في الحياة عدة مرات. حياتي الأولى عشتها مع أب محامي ديمقراطي منفتح، علمني كيف أختار طريقتي بالحياة، من أفكاري وتوجهاتي الدينية وحتى حرية اكتشاف ذاتي. وأمّ كانت مصممة أزياء فنانة متميزة، فالحرية والفن أقاما بنياني وشكّلا شخصيتي وجعلاني قارئة نهمة.
عندما درست في كلية الفنون الجميلة بدمشق، تعرفت في الكلية على زميل لي، وبعد قصة حب تزوجنا بعد التخرج، ثم توجهنا إلى المملكة العربية السعودية من أجل العمل، وبهذا انتقلت إلى بيئة مختلفة بثقافتها، بحريتها، بمفهومها الاجتماعي، وأنجبت فيها ثلاثة أولاد. وكنت قد أسست مكتب ديكور وتصميم داخلي، لكن العمل كان في بيئة صعبة، فقاومت جداً من أجل الاستمرار ونجحت في عملي، قاومت كي أحافظ على شخصيتي وأفكاري، ومبادئي وحريتي، وهكذا كنت أربي أولادي بذات الطريقة، جعلتهم يتعلمون الاختيار ويتمتعوا بأفكار ديمقراطية ومنفتحة تماماً، وبعد 23 سنة زواج تطلقنا.
قررت العودة إلى دمشق، وهناك أسست دار نشر، وهذا كان حلمي الثاني وبه بدأت مرحلة جديدة. ثم صادف أن انفجرت الثورة بدمشق، وبعد أحداث كثيرة اضطررت للعودة إلى السعودية، ومن هناك توجهت إلى فرنسا، وفيها بدأت رحلة حياة أخرى جديدة.
نحن الآن في باريس عام 2016، وساعدتني الظروف بتقديم مكان أعيش فيه هو مسرح باريس، إنه مسرح قديم أنشئ منذ أربعين عاماً اسمه "الكونفيرانس". وربما قررت الحياة أن تدخلني في امتحان جديد لوجودي واندماجي وحتى انتمائي، وهنا أقصد انتمائي لأفكاري، لأن الأمكنة تضعنا في امتحان مع الذات ومع الآخر من خلال اللغة، ومع أني لا أتقن الفرنسية، فقد وجدت نفسي مع مجموعة من الموظفين، شابات وشباب، مخرجين فنانين لهم عالم بلا خطوط حمراء ولا حدود ولا رقابة، والذي هو شغفي وحلمي، وليس غريباً عني، فبالنسبة لي عالم الفن لم يكن يوماً غريباً عني، ولكني أنا كنت غريبة بالنسبة للآخرين! وهذا ما كنت أراه في عيونهم، وكان ردي عليهم أنه لن يعرفني الآخرون إلا من خلال اندماجي معهم، وخاصة اندماجي بحالة عفوية، وذلك ممكن من خلال العروض التي يقدمونها. نشأت صدقات بيني وبينهم، كان فيهم كثير من المثليين والمتحولين جنسياً، وكانوا يستغربون عندما يعرفون أنني عربية، وكيف أتعامل معهم بكل محبة وصدق. لقد كانت علاقات تفاعل بكل النواحي الإنسانية والفنية، وحتى الوجودية. اللغة لم تكن عائقاً، ربما العائق يذهب عندما تساعد الناس بعضها البعض، كانوا يساعدوني وكنت أساعدهم. حتى الحوار الذي كنا نتبادله، كنت أستخدم فيه اللغة الفرنسية مع العربية مع الإنكليزية في جملة واحدة. وكان ذلك يشكل متعة لهم وهم يسمعوني وأنا أقول هذا المزيج، حتى أنهم كانوا يقلدونني أحياناً.
تشكلت بيني وبين جميع من يعملون في المسرح صداقة، وأكثر من ذلك، نستطيع أن نسميها "ودّ عائلي". كنت أساعد بالتحضير للمعارض الفنية والحفلات، أو نجهز الطعام معاً. كنت أعد لهم الطعام بطريقة جميلة، حتى أني في أحد المرات طبخت لهم "حرّاق اصبعو" وسكبتها في أوعية صغيرة منسقه بطريقة جميلة حتى يتعرفوا على طعامنا، فكانت شيء ممتع بالنسبة لهم. وغالباً ما كنت أقدم لهم بشكل فردي أطعمة أفاجئهم بها أثناء الغداء، أو في أوقات استراحتهم، وكانوا جميعهم يسمونني: "ماما رنا".
كنت أحضر المسرحيات وكأني في بيتي، هو كان بيتي فعلاً، كان المسرح بيتي الحقيقي، كنت أشاهد المسرحيات من غرفة الاضاءة، كان لها نافذة تطل على الصالة، وهذه الغرفة موجودة في الطابق الثاني. كان شعوراً جميلاً جداً، عندما أحضر المسرحية من الشباك العالي كنت أشعر أني أحلق فوق الخشبة.
كانوا أحياناً يأتون من أجل الرسم، ليقيموا معارضاً في المسرح، كنا نجلس ونتحدث معاً عن الألوان والريش وجماليات اللون. كم هو جميل أن تلتقي مع الآخر باللون وبالريشة، هنا لا يوجد لغة، هنا لغة تدعى لغة الروح، ولغة الانتماء للإنسان. صرنا كلنا عائلة واحدة، بكل ما تحمل الكلمة من جماليات.
لنتحدث عن "فولفينغ" وهو رجل متسول يجلس قرب سوبر ماركت اسمها "فرامبري" يضع صحنه، ولديه كلبين، وبيده دائماً كتاب. كان هذا الإنسان جزءاً من المسرح، كان "عرّاب" قصص المسرح، يدخل إلى المسرح كجزء من المكان، أصبح صديقاً مقرب لي، أحببته وأحبني، كان يأتمني على حقيبته التي يتركها في المسرح حيث كان يخفيها، كي لا يسرقها له أحد حسب قوله. كما كان حارسي الليلي الذي ينام في الخارج تحت شباك غرفتي في المسرح، وهو يقول لي: "رنا لا تخافي، أنا هنا، نائم في الخارج، أنت لست وحدك". جميل ورائع أن تكون بين مجموعة يجمعك معهم شغف واحد، ربما حريتك وحريتهم، ربما القبول المتبادل. كنا نتبادل لحظات الفرح والحزن والعمل، لا أستطيع أن أعبّر عن مشاعري لأنها أصبحت جمعية، أصبحت أنا وهم.
إلى أن بدأت المأساة، ولأن في كل حكاية مأساة، قررت الدولة إغلاق المسرح لعدم قدرتها على تمويل الكثير من المسارح الصغيرة، التي تعتمد على المساعدات كي تستمر. حارب أصدقائي جميعاً وبكل قوة، وأنا كنت معهم، نظموا حملات لإنقاذ المسرح وعدم إغلاقه. كانت حملات دعائية وفنية ومسرحية، فيديوهات تم نشرها بعنوان: "أنقذوا المسرح". كان الحزن يخيم علينا جميعاً، كان الحزن مؤلم، كان شعوري ناحيتهم مؤلم جداً، وكان خوفي عليهم قوي، خاصة من المجهول الذي ينتظرهم، كنت أرى كم عملوا وتعبوا لسنوات أسسوا هذا المكان، تآلفوا معه وأصبح جزءاً من حياتهم، كانوا في غاية الحزن من أجلي، ويتساءلون: "أين سوف أذهب؟". شعرت أن اللجوء في هذا العالم لا يمسني أنا وحدي، إن أصدقائي أيضاً أصبحوا لاجئين، فهم يبعدون عن مكان أحبوه، وعشقوه وعملوا كثيراً لبنائه ثم ذهبوا للمجهول.
كنت أنا آخر الخارجين من المسرح، أغلقت أبوابه، احتفظت بالمفتاح كما احتفظت بمفاتيح بيتي في دمشق، أيقنت بقوة وبثقة أن الاندماج ليس أن تتقن اللغة، إنما أن تتقن الحب والمحبة وقبول الآخر مهما كانت ميوله وأفكاره، وأن الانتماء ليس للمكان إنما للإنسان والإنسانية.
هذه قصة انتمائي لباريس وغربتي في هذا العالم.