يعمل سالم موسى الكاديكي مفتشاً تربويّاً في بنغازي.
كان الكاديكي عام 1976 طالباً في الثانوية حين زاره وفدٌ من طلاب الجامعة شجّعه وأصدقاءه على التظاهر معهم، يقول سالم “لم نكن ندرك أسباب ذلك الطلب إلا أننا قرّرنا التضامن مع زملائنا. مشينا مع الأصدقاء مسافة ثلاثة أو أربعة كيلومترات في الشارع المؤدّي إلى كليّة الهندسة والتقينا بطلاب آخرين هناك، وكان المشهد رائعاً. اكتظ الشارع بأكثر من ثلاثة آلاف طالب، وكانت صور عمر المختار مرفوعة في كل صوب، إنضممنا إلى المظاهرة ومشينا باتجاه ميدان الشجرة حيث كان المتظاهرون يلقون الخطابات، فعلمتُ من الخطابات حينها بالاشتباكات التي وقعت في الجامعة في اليوم السابق لتظاهرتنا“.
“أصابتنا صدمة كبيرة حين علمنا أنه تمّ استهداف الطلاب وإطلاق النار عليهم، لأننا تعلّمنا من أهلنا أن حرم الجامعة هو مكان شبه مقدّس. في ذلك اليوم أحاط الحرس الوطني بالمحتجين، وكانت المرّة الأولى التي أسمع فيها إطلاق نار في حياتي، كانوا قد بدأوا بإطلاق النار للتوّ ودوّى الصوت في كل ناحية، انتابنا الشعور بالقلق والارتباك وحاول بعضنا الهرب بينما التقط البعض الآخر الحجارة للدفاع عن أنفسهم، لقد كان موقفاً مروّعاً وغير متوقع. كنت قد سمعت عن الحرب العالمية لكني لم أسمع يوماً عن هذا الاضطهاد في ليبيا، كنّا محاصرين”.
هرب الكاديكي نحو شارع قصر حمد المتفرّع من شارع عمرو بن العاص لإيجاد مكان يختبئ فيه من طلقات النار. يقول عن تفاديه الرصاص: “تجاوزتُ صالة السينما ومطعم السمك، ثم أصبت في كتفي وفي قدمي ووقعت، لم أصدّق أنها كانت رصاصة بالفعل، كنت أتوقّع أن يضربونا بالحجارة أو خراطيم المياه لكني لم أتوقّع الرصاص أبداً، كانت الرصاصة ناحية الصدر أمرًا متعمّداً“.
بالرغم من إصابته كان الكاديكي محظوظاً إذ كانت الموضة آنذاك أن يرتدي الشبان السروال والكعب العالي، الأمر الذي أنقذ قدمه وحياته. يقول “أصابت الرصاصة كعب حذائي ودخلت بين أصابع قدمي فوقعت، ولو لم أفعل لكنتُ أصبتُ في صدري”.
بينما كان مستلقياً على الأرض تعرّف الكاديكي إلى أحد طلاب الجامعة مختبئاً خلف أحد الأبواب في محاولة لتجنّب الرصاص. يقول “طلبت منه المساعدة، فتقدّم مع طالبين آخرين وحملوني إلى مكان آمن وكنت أنزف بشدّة، ثم أوصلتني سيارة إلى مستشفى الجلاء، وأخبروني لاحقاً أن دمي كان يغطّيهم بالكامل وأنهم حين وصلوا إلى منازلهم أصيبت أمّهاتهم بالرعب“.
ذلك الأحد، لقي رجلان حتفهما وتبعهما في الأيام التي تلت إصابات أخرى. في تلك الأثناء كان الكاديكي في المستشفى بينما كان أخوه ناصر مع باقي الطلاب الذين تظاهروا نهار الأربعاء في المدينة يضرمون النار في السيارات والمباني .
يتحدث سالم: “قالوا إن الحجارة لم تعد تنفع، وإن عليهم الردّ على الرصاص بالرصاص فاستعملوا الجيلاتين الذي يستعمله البحارة لإشعال النار وأحرقوا المباني، أذكر أنني رأيت حين غادرت المستشفى بقايا المباني المحترقة“.
أضرموا النار في الكاتدرائية السابقة في بنغازي حيث كان مقر الاتحاد الاشتراكي العربي، وفي العام التالي تمّ شنق معلّمَين علناً أمام الكاتدرائية. يقول سالم “رأيت جثتي عمرالدبوب ومحمد الطيب معلّقتين في الساحة العامة، لقد بدا الأمر كمشهد من فيلم إيطالي أو أمريكي قديم”.
في العام التالي التحق الكاديكي بالأكاديمية العسكرية. يقول عنها “ربما كردّة فعل على ما حدث، لم أكن أملك، بصفتي مدنياً القوّة لتغيير أي شيء، لكن ربما يختلف الأمر بالنسبة للعسكريين“.
اِنضم إلى القاعدة البحرية وخدم في روسيا حتى آب من عام 1982، أي قبل عام واحد على تخرّجه. وبينما كان يقضي العطلة في منزل والديه، قدم ضبّاط المخابرات إليه وطلبوا منه مرافقتهم.
تمّ نقله إلى طرابلس واستجوابه بشأن مؤامرة تحيكها المعارضة ضد النظام باعتبار أن أحد زملائه في القاعدة البحرية في روسيا كان متورّطاً فيها، وكان قد سبق لنفس الضابط الذي استجوب الكاديكي أن اقترح على زملائه المتآمرين فكرة أن ينضم الكاديكي إلى عملياتهم. يقول الكاديكي “ لم يكن من سبب حقيقي يدفعهم للشك بأن أكون جزءاً من المؤامرة، لكنهم علموا من الإصابة في كتفي أنني كنت يوماً من المتظاهرين“.
قضى الكاديكي ست سنوات في السجن، حرم خلال أربع منها من رؤية أشعة الشمس. يقول عن سجنه “لم يكن السجن ليفقدنا الحرية فقط، بل كان للإهانة والإذلال، كانوا يستفزوننا ويضربوننا عشوائياً وكانت غرفنا باردة جداً ومنعوني من تناول دواء الربو الذي كنت أحتاجه”.
رأى الكاديكي قاعة المحكمة مرة واحدة فقط، وجرى إطلاق سراحه عام 1988 كجزء من فترة إصلاحات قام بها القذافي وعرفت باسم “أصبح الصبح”.