كان صالح عمرو القصمي في سن الواحد والثلاثين حين تم اعتقاله. وكانت أعمار بناته الثلاث آنذاك عشر وثلاث سنوات وأربعين يومًا. تم إطلاق سراحه بعد ثلاثين عاماً ليجدهن أمهات وهو الآن يفتخر بكونه جد لعشرين حفيدًا.
"تم اعتقالي بعد ما عُرف بثورة 1973 الثقافية أو الثورة الشعبية للقذافي. كانت جميع الأحزاب مستهدفة وكذلك المفكرين والمثقفين. ألقى القذافي خطاباً في عيد المولد النبوي في 15 أبريل إذ كان دائماً يختار مثل تلك التواريخ الدينية كي ينكّد على الليبيين".
استعدّ أعضاء الأحزاب بمن فيهم الشيوعيين وأعضاء حزب التحرير والإخوان المسلمين للمواجهة. وفي اليوم التالي أقيمت مسيرة كبيرة للحرس الثوري الخاص بالقذافي وغنوا أناشيد تتهم أعضاء الأحزاب السياسية بالخيانة والتعامل مع الغرب. "بدأت الاعتقالات يوم السابع عشر من نيسان وتم اعتقالي في 30 نيسان لأنني كنت أنتمي إلى حزب التحرير. كنا جميعاً ناشطين سياسيين قبل انقلاب 1969 وكانت أسماؤنا معروفة".
توقعوا الاعتقالات وعلموا أن الأوامر أتت من الأعلى وأنهم تحت المراقبة من دون أي إجراءات تشريعية. يتابع: "قدموا لتفتيش مكتبي ومنزلي، ولم يكن معهم إذن بذلك، كما لم يكن معهم إذن عندما تم اعتقالي. إنها طريقة الديكتاتورية. شعر الضباط أنفسهم بالإضطراب لكنهم مثلوا للأوامر التي تلقوها عبر الهاتف".
عندما وصل إلى سجن الحصان الأسود، شعر القصمي بالسعادة لرؤية العديد من المثقفين والناشطين السياسيين. اعتقد أنهم لم يتعرضوا للتعذيب، لكنه كان مخطئاً.
"كانت الاستجوابات صعبة خاصة على جماعتي التي كانت تحاربهم وتلقبهم بالخونة. كانوا يجلسوننا على الأرض في الباحة ويحيطون بنا يحملون آلات تعذيب مختلفة فيضربوننا بالعصي والأحزمة باستمرار. طلبوا منا أن نغيّر أفكارنا لكننا كنا شباباً ومتحمّسين".
بعد ثلاثة أشهر من الاستجوابات في الجناح العسكري في سجن الحصان الأسود، تم نقل القصمي وزملاؤه إلى الجناح المدني. "كانت الحياة هناك أفضل وكانت عائلتي تزورني كل أسبوع. أسوأ ما في الشرطة المدنية لا يمكن أن يقارن بوحشية الشرطة العسكرية. في 3 مايو 1980، عدنا إلى الجناح العسكري وعذابه". توقفت الزيارات العائلية واختفى التلفاز والراديو كما اختفت الكتب التي كانوا يتمتعون بها في جناح الشرطة المدنية.
"في 30 سبتمبر 1994، نقلونا إلى سجن أبو سليم حيث كان جميع معتقلي الجبهة الوطنية لإنقاذ ليبيا. خلال فترة أصبح الصبح، تم إطلاق سراح بعض زملائي". "أصبح الصبح" هي الفترة التي قرر فيها القذافي عام 1998 إطلاق سراح العديد من السجناء والتفاوض مع أفراد المعارضة، ولم يستفد القصمي من "أصبح الصبح" وبقي في أبو سليم حتى تاريخ إطلاق سراحه.
"كان سجن أبو سليم أسوأ من سجن الحصان الأسود، فالأخير تم بناؤه في الثلاثينيات وكانت مساحته ونوافذه كبيرة. كان بإمكاننا أن نسمع من في الخارج وأن نشم رائحة الطبخ. أما في أبو سليم فكانت الغرف مصممة على شكل صناديق معدنية بنوافذ صغيرة حيث كانت الحرارة ترتفع جداً في الصيف وتنخفض كثيراً في الشتاء".
عام 1996، احتجّ بعض السجناء على الظروف التي كانوا يعيشون فيها ووقعت في اليوم التالي مجزرة قتل فيها 1270 سجيناً وكان القصمي شاهداً على ما حدث . "كان يصعب علينا سماع صوت صفارات الإنذار والطلقات النارية والجرافات. شعرنا أننا سنكون التالين ولم نعرف بما حدث سوى بعد عام".
علم القصمي وزملاؤه الذين سجنوا عام 1973 أنهم سيسجنون بعد سماعهم لخطاب القذافي. لكن القصمي كان آخر من قُبض عليه إذ كان قد غيّر عنوانه حديثاً مما أخّر الأمر أسبوعين تقريباً. "كان من الممكن أن أهرب لكنني فكرت بعائلتي كما أني لم أكن أعتقد أن الأمر سيطول. سنحت لنا فرص كثيرة للهرب من السجن أيضاً لكننا كنا نؤمن بأنه سيتم إطلاق سراحنا. كنا نتابع ما يحدث في الخارج حين نتلقى الزيارات. كنت مؤمناً أن الثورة ستقوم أو أن القذافي سيموت".
ويذكر أحد زملاء القصمي أنّ الأخير كان يُعرف باسم المسيح إذ كان يتمتع "بصبر لا حدود له".