منال

احد مقابلات حزمة: قصص عن الانتماء,
Original Interview Length:
سجلت هذه المقابلة في: أوسلو, النرويج
فريق الانتاج:
المواد المتوفرة لهذه المقابلة:

أنا منال من العراق، مقيمة في النرويج منذ عام 2009. جئت عبر برنامج مخصص للصحافيين، وكانت رحلتي ميسرة أكثر من اللاجئين الآخرين، لأن كل شيء كان مرتب قبل أن آتي، اعتدت على العمل الصحفي والثقافي في الصحف المحلية في بلدي العراق، وفي الصحف العربية عبر المراسلة. وبعد وصولي إلى النرويج تابعت عملي في الصحافة الحرة، والآن أعمل كسكرتير تحرير في مجلة فصلية نرويجية تابعة لدار نشر نرويجية في أوسلو.

في البداية كانت أكثر التحديات التي واجهتني هي فهم القوانين وفهم النظام حتى أكثر من معرفة اللغة، لأنني كنت أتكلم الإنكليزية وهذا ساعدني كثيراً، لكن مع الوقت والحصول على الإقامة يحتاج الفرد أن يثبت امكانيته اللغوية المحلية كي يتواصل على مستوى العمل وعلى مستويات أخرى. في ندوة ثقافية حضرتها بحكم عملي في الوسط الثقافي، وكانت بحضور مكثف من الجمهور الوافد، سواء كانوا لاجئين أو مهاجرين، وتقريباً غالبية الحضور تكون من الجيل الشاب الذين وصلوا مؤخراً، فتكون هناك نقاشات وتكون هناك أسئلة. ومن الأسئلة الروتينية التي دائماً تطرح على اللاجئين: كيف أثر عليك بلد اللجوء؟ ماهي درجة الاندماج؟ هل تحنّ إلى بلدك؟ هل ستعود إلى بلدك؟

دائماً نواجه هذه الأسئلة، وكان هناك رأيان في الندوة، زميلة فنانة عبّرت عن اشتياقها الدائم لبلدها، وأنها غير قادرة على التأقلم الفعلي رغم وجودها من مدة في هذا البلد. بينما كان لي رأي آخر، مما حفز الجمهور أن يناقش هذه الرأي بطريقة أخرى، ما قلته ليس رأي بصراحة، إنما هو نتيجة توصلت لها بعد تجارب وسنوات من الخبرة: أن لا أتعلق بالمكان وأن لا أتعلق بأشخاص، لأن شخص مثلي ولد في بلد مثل العراق وواجه سنوات الحروب المتتالية بدون توقف، وواجه فقداً على المستوى الشخصي وعلى المستوى العام، أصبح من الصعب جداً أن يعيش حالة الفقد بشكل دائم. فأنا عندما قدمت إلى هنا قررت أن أعيش اللحظة الآنية، وأن يكون هذا هو انتمائي، انتمائي أصبح للزمن أكثر، انتمائي للحظة وجودي أنا وماذا أفعل وماذا يحدث في اللحظة، لأن التفكير الدائم بأني فقدت شيئاً ويجب أن أعود إليه أصبح مرهقاً ولم يعد يجدي، وأحياناً يبعث إلى الاكتئاب ويبعث إلى الانعزال أكثر، ومع ذلك فلا أقصد أنني انطلقت في الحياة هنا. لكنني مع الزمن ولأني لم أعد قادرة التعامل مع جزئية الفقد الدائم، سواء أكانت فقداً معنوياً أو فقداً مادياً، لذا قررت أنه يجب أن يكون انتمائي إلى اللحظة التي أعيش فيها، اللحظة التي تمنحني الراحة أينما كان لا يهم، سواءً أكان هنا أو في مكان آخر، لأني، وبصراحة سأقولها، على المستوى الشخصي حتى في داخل بلدي كنت أشعر بشيء من الغربة وعدم الانتماء.

طالما لديك حياتك الخاصة وغير قادر أن تعيشيها كما تحب وكما يجب، حتماً سوف تشعر بعدم الانتماء، وحتماً سوف تشعر أن هناك خلل ما، هل هذا الخلل هو المكان، أم الزمان أم ماذا بالضبط؟ عندما نجد الجواب لهذه الأسئلة الخفيفة السهلة جداً، ربما لن نستطيع التخلص من فكرة الانتماء ولكن على الأقل نستطيع أن نذللها لصالحنا نحن وليس العكس. لأن الاشتياق الدائم يدخل الإنسان في حالات من التعذيب النفسي.

أنا بالفعل هنا، حياتي هنا، أولادي هنا، لا أعرف إذا كان هناك يوجد غد أم لا، لكنه على الأقل سيكون هنا، فدائماً نجد أن فكرة الارتباط بالوجود التي هي غير الارتباط بالمكان، فالارتباط بالوجود هو الارتباط بالإحساس نفسه، هل أنت تحسّ أنك موجود في تلك اللحظة؟ من هذا الباب، كنت دائماً أعوّد نفسي وأمرّن نفسي كي لا أتعلق بالمكان ولا أتعلق بأشخاص، لأن الأشخاص يرحلون عنا وهم كانوا جزء من فكرة الانتماء التي نشأنا عليها. هؤلاء الأشخاص الذين كانوا في حياتنا أيضاً، كانوا جزءاً من فكرة الانتماء، الآن هم ليسوا معنا، ونحن لسنا معهم، ولكن لماذا دائماً نشعر أننا نحن ملزمون أن ننتمي لهم؟ في الوقت الذي لا أستطيع عيش حياة ذاك الإنسان غير الموجود، بينما لدي حياة موجودة هنا وأستطيع أن أعيشها حقيقة، من هذا المنطلق جاء الاختلاف في وجهات النظر، وهذا اختلاف صحي طبعاً، وأنا متفهمة وأتفهم جداً من يحنّ إلى بلده وإلى زمنه وإلى عائلته وإلى كل هذه الأمور، هذه كلها أمور مفهومة، لأنه من الصعوبة أن نتخلص من كل شيء في آن واحد، لكن ما انتبه له أنه مع الزمن تخف حدة هذا الاشتياق وهذا الشعور بالانتماء. حتى أحياناً ألاحظ أنهم يخلقون عالماً آخراً موازيٍ صغير شبيه بعالمهم الذي كان، لكنهم لا زالوا ليسوا سعداء.

إذاً ليس البديل أن تجد عالماً موازياً لعالمك الذي كان، وإنما أن تعيش عالماك الآن الذي هو متوفر لك بمكانك وبزمانك وبلحظتك.

أنا منال من النرويج، وهذه كانت قصتي مع فكرة الانتماء.