تعيش طبيبة العيون نجلاء عبد المولى دغمان في بنغازي، عُيّن والدها عبد المولى دغمان عميداً لإحدى الجامعات الليبية عام 1967، حين وقع الانقلاب الذي أطاح بالملكية خلال العام 1969 كان موجوداً في فيينا، وكي لا يكون للانقلاب أي تأثير سلبيٍّ عليه تمّت دعوته للبقاء هناك، ثم تمّت دعوته للعمل في المملكة العربية السعودية، لكنه حينها رأى أن بلاده تحتاج إليه أكثر فعاد إلى ليبيا التي يحبها.
وفور وصوله تمّ اعتقاله مثله مثل الكثيرين الذين سجنوا في الأسابيع التي تلت انقلاب سبتمبر، مكث شهرًا في السجن ثم تمّ وضعه تحت الإقامة الجبرية في منزله، وحينها بدأ مع زملائه بكتابة منشورات تشجّع الليبيين على رفض الحكم العسكري. تقول نجلاء ”تمّ اعتقالهم في يونيو 1970 قبل توزيعهم للمنشورات، وحكم على والدي بالسجن عشر سنوات، رغم أن القانون يحكم على هذا النشاط بالسجن لعامين فقط“.
توقع عبد المولى حينها أن يتمّ إعدامه، لذا كان يتحدث جاهداً إلى القاضي مباشرة ويصمم على طرح مخاوفه وآرائه، ورغم جهد محاميه أيضاً ومحاولاته بطلب الالتماس لكن لم ينفع شيئاً. تقول نجلاء “كان ضد الحكم العسكري وكان يؤمن أن أمريكا اللاتينية ومصر خير مثالين على أن هذا النظام العسكري يعيق نمو الدول، والقذافي كان يتطلّع إلى مصر وعبد الناصر، وكانت آراء والدي المعارضة تعتبر إهانة للأيديولوجية القومية، لذلك تمّ الحكم عليه بعشر سنوات”.
وتتابع “زارته والدتي للمرة الأولى بعد عدّة سنوات من سجنه، كان مثل الهيكل العظمي على الرغم من ضخامته، وكانت علامات التعذيب تظهر على جسده، لم يعطوه دواء السكّري فاضطر لإجراء عملية في كليته نتيجةً لذلك، كان الناس يعتبرون انقلاب القذافي غير دمويّ، وبالرغم من أن الدم لم يسل في الشوارع إلا أنه كان يملأ المعتقلات والسجون التي مات فيها الكثيرون تحت وطأة التعذيب“.
عاشت الأسرة في بنغازي بينما كان الوالد معتقلاً في طرابلس، وكانت الأسرة تزوره مرتين في السنة وقت العيد. تقول نجلاء: “لم تتمكن أمّي من أخذنا أنا وإخوتي الأربعة إلى طرابلس عند كل زيارة له، لذا كنت أرى والدي مرّة واحدة في السنة، كنّا نشتاق إلى وجوده معنا، لكننا لم ندع الأمر يحطّم نفسياتنا فقد كانت أمّي تلعب دور الأب والأمّ معاً“.
كانت والدة نجلاء في سن الثامنة والعشرين عندما حكم على زوجها بالسجن لعشر سنوات، وحكم على والدها حسين مازق بالمدّة نفسها في اليوم ذاته. تقول نجلاء “اكتسبت أمي 85 رطلاً في ذلك الوقت، وأصبحت مسؤولة فجأة عن إعالة أربعة أطفال ووالدتها وثلاثة عشر أخاً وأختاً”.
شغل مازق منصب رئيس وزراء ليبيا من العام 1965 إلى العام 1967 أثناء عهد الملكية. “كان من بين من تمّ إلقاء القبض عليهم في انقلاب 1969 رغم أنهم لم يجدوا شيئاً يدينه، وطُلِبَ منه أن يحدّد علاقته بالملك إدريس فقال: (إنها تاريخية وروحانية). كان النظام الجديد يحاول عبر تلك المحاكمات أن يظهر أن الملكية التي أطاحوا بها كانت مليئة بالفس، اد لكنهم جعلوا من جدّي شخصية عامة ومشهورة حين حكموا عليه وسجنوه من دون سبب.”
“سأل مرّة هوّاري بو مدين، أحد قادة مجلس قيادة ثورة القذافي، عن سبب القبض على جدّي فأجاب: “أن هذا الأخير استخفّ بالثورة ممّا جعلها تبدو غير مهمّة، لذا لم يتمكنوا من اعتباره بريئاً“، قد يكونون أيضاً خافوا من أيديولوجيته وتأثيره.”
توفي مازق الآن لكن من أهم القصص التي تناقلتها الأجيال عنه قصّة رحلته إلى مصر أثناء توليه الوزارة. تقول نجلاء عن جدها “عندما قابل جدّي عبد الناصر أخبره الرئيس المصري أن الأمريكان اشتكوا منه وأن عليه أن يتهاون معهم قليلاً، كان يشير إلى إصرار جدّي على إغلاق القاعدة الأمريكية في ليبيا بموجب العقد ورغبة الشعب. لاحقاً أخبر جدي رفيقه في السفر فتحي خوجه أنه ما من أحد سيصدّق أن زعيم الوحدة العربية طلب منه هكذا طلب “.
وصف بشير الهواري، وهو أحد أعضاء مجلس قيادة الثورة، اضطرابهم الكبير خلال محاكمة جدّي وخوفهم من أن يتحدّث عن تلك الواقعة، ويضيف الهواري “كان هناك زر أسفل قدم رئيس المجلس يمكن الضغط عليه فوراً لقطع الكهرباء عن المكان إذا بدأ جدّي بالحديث عن ذلك، إذ كان عبد الناصر نموذجاً لانقلاب القذافي وكان من الممكن أن تتلطّخ سمعته“.
أطلق سراح “مازق” بعد أربع سنوات بينما بقي والد نجلاء في السجن لعشر سنوات كاملة، ولم يتمّ إطلاق سراحه عام 1979 لأنه أنهى مدّة حكمه، بل لأن منظمة العفو الدولية مارست ضغوطات متواصلة على النظام، فتمّ الإفراج عنه بينما بقي الكثيرون في السجن لمدّة تفوق فترة حكمهم.