"صباح الخير، كيفك، كيف أسمر؟"
كلما ترسل لي رسالة، كان يجب أن تسألني كيف حالك، وكيف حال أسمر؟
أو حتى عندما تأتي إلينا للزيارة، يكون أول سؤال عن أسمر!
أسمر هو قطي، أتذكر عندما جئت للسكن بهذه البناية ورأيتها تمشي مع كلابها، هي لا تتكلم الإنكليزية أبداً، وأنا ألمانيتي ضعيفة، فهذه اللغة لم أستطع أن أتأقلم معها منذ وصلت إلى النمسا ولم أحبها ولا أقدر تعلمها، هذا الشيء لم يمنعني أبداً لأجد جملة لأقول: صباح الخير. كيف حالك؟ ممكن مسّد على الكلب، ما هو اسمه؟ وأسأل هل هو ذكر أم أنثى؟
وكنت في كل مرة أزيد المحادثة عندما أراها تخرج معهم من أجل المشي، وكان لكلابها حصة من السلام، وهذا الشيء كان يفرحها حقاً. إلى أن جاء يوم ورأيتها فتشجعت وقلت لها: أريد أن يكون لدي قط، وأنا أحب الحيوانات، هل من الممكن أن أعرف كيف أجد قطة أو قط في هذه المقاطعة؟ من مواقع الانترنت أو في محل ما؟
فقالت لي أن هناك مواقع إلكترونية، وفتحت هاتفها النقال وعلمتني كيف أبحث وفق تطبيقات معينة. بعدها كنت كثيراً ما أدعوها لنتناول القهوة معاً، ومرة لبّت الدعوة وكان مجمل أحاديثنا عن الحيوانات، وقالت كم هي تحبهم، وأخبرتها كم كنت أهواهم أثناء الصغر، وتحدثنا بكل شيء له علاقة بالحيوانات الأليفة. وأخبرتني أنها لا تخرج من البيت أيام الإجازة لأنها تمتلك حيوانات في المنزل، كلبان كبيران وقط و23 جرذ، وذلك ما دفع أخي الذي كان معي للخوف، لأن لديه فوبيا من كل الحيوانات ما عدا القطط.
أول مرة أحضرت فيها قطي "أسمر"، كانت هي أول شخص يزورني، وبين حين وآخر تراه وترفعه وتلفه وتلتقط الصور معه، كانت تريني حباً كبيراً له، هذا الشيء جعلنا أقرب أكثر من بعضنا، وجعلني أشعر أن هناك شيء مشترك بيننا هو حب الحيوانات، فاستطعنا أن نصل إلى بعضنا البعض في ظل مجتمع كل شيء فيه مختلف، لكن حب الحيوان والعطف عليهم، يجعله مؤتلف.
في أحد المرات ونحن في العيادة البيطرية، راح الناس جميعاً يتحدثون إلينا أنا وأخي، لأن قطنا كان صغير جداً وجذاب، فكل الناس بدأت تتقدم وتتحدث معنا، وتتحدث عن جماله وتسأل عن اسمه ونوعه. بعد ذلك ونحن في الشارع عائدين إلى البيت، بدأ الناس يتحدثون إلينا أكثر ويتقربون أكثر عندما كانوا يرونا ونحن نحمله في السلة.
قال لي أخي: حقيقة هذه أول مرة منذ جئنا إلى النمسا قبل أربع سنوات، أتواصل وأتكلم مع هذا العدد الكبير من الناس! يجب عليّ في المرات المقبلة أن أصطحب القط وأمشي معه بالشارع حتى أستطيع التعرف والتحدث مع الآخرين. حقاً الحيوانات هنا هي مفتاح العلاقات، مفتاح الحب الحقيقي بين الناس في النمسا، هي المضمون الصادق في التعامل من أجل تكوين أي علاقة.
كانت صديقة الحيوانات تأتي لتناول القهوة، فتلعب مع أسمر وتأكل من الأكلات التي نعدها وتحبها كثيراً، وفي أحد المرات كنت قد حضّرت نوعاً من الحلويات الذي تحبه، فأرسلت لها رسالة أخبرها أني أريد أن أرسل لها منها، فأجابتني أنها مريضة جداً ولا تستطيع تناول شيء، وأنا دون شعور طبعاً نهضت وحضرت طعاماً معيناً وشوربة وطرقت الباب عليها، وكنت أفعل ذلك لعدة أيام، ثم أرسلت لي رسالة تقول فيها: "أنا أشكرك جداً لأنك قمت بشيء عظيم". ابتسمت في داخلي وأخبرتها أنه لا داعي لأن تشكريني، لأنه بالنسبة لنا نحن كعرب لا يعتبر هذا الموضوع شيئاً عظيماً، نشعر أنه أمر واجب، شعورنا تجاه الجيران أنهم بالنسبة لنا مثل الأهل.
نعود لجاراتي أو نعود للجيران، عندما سكنت في البناية وهي عبارة عن أربع شقق، بادرت أنا وأخي وطرقنا أبواب البيوت وقدمنا لهم الكيك والورد وبطاقة تعرفهم أننا جيرانهم الجدد، ونعتذر عن جميع الأصوات التي تسببنا فيها أثناء النقل. وكانت الصدمة في اليوم التالي، عندما كنت أنزل درج البناية رأيت بعض الورد والكيك والبطاقات في سلة القمامة، طبعا لا أعلم من رماها ولم أكن أتوقع من فعل ذلك، الأمر الذي أزعجني، وما حدث جعلني لا أبادر بتحية أحد ولا أبتسم بصدق للناس الذين يسكنون معنا، لأن شعور أنك منبوذ من الناس كان شعوراً بشعاً. جارتي بيترا، كانت هي الشخص الوحيد الذي شكرني على الفور وأهدتني زجاجة نبيذ عند ما أهديتها الورود والكيك، ووجدت ذلك لطيفاً جداً منها ومختلفاً عن البقية. طبعاً بعد فترة من الزمن بقيت أتواصل مع بيترا بين الحين والآخر. جارتي بيترا لا تتحدث الفصحى وتعليمها بسيط مع أنها شابة وتعمل، لكنها كانت تصحح لي مفردات وتقول لي: لا تقولي هكذا… بل قولي هكذا… حقاً إن اللغة هي مفتاح كي تبني علاقاتك في مجتمع، من الممكن أن تكون غريباً عنه، لأنهم يشعرون بالأمان أكثر معك عندما تتحدث لغتهم، وخاصة اللهجة أو اللكنة الخاصة بهم. لكني وجدت مفتاحاً آخر، وهو الحب المشترك للحيوانات. ربما حب الحيوانات لا يحتاج لغة معينة أو لا يحتاج إلى مفردات منتقاة أو تجميلية، وحتى اللغة المحكية العادية.
منذ أربع سنوات إلى الآن، اختلفت لدي أمور كثيرة، كنت أتضايق عندما ينادي لي أحدهم نور، لأن كلمة نور باللغة الألمانية تعني "فقط"، وفي كل مرة يجب أن أشرح ما معنى اسمي، والآن حتى لو نادى أحدهم "فقط" لا أزعل، أضحك، ربما أنا تأقلمت وبدأت أتكلم اللغة التي لم أكن أحبها قبل أن أصل إلى أوروبا وشاءت الظروف أن أكون في بلد بهذه اللغة أي الألمانية.
المحاولة صعبة ولكني على ذات الطريق، يجب أن أفتح مجالاً حتى أستطيع أن أتكلم وأتواصل بشكل أكبر، حتى أشعر أنني أستطيع فعلاً العيش في هذا المجتمع، على فكرة حتى بالحجر الصحي "بسبب كورونا" لم أعد أرى جارتي التي تحب الحيوانات، ولكنها بقيت ترسل لي بين حين وآخر:
"كيفك وكيفه أسمر".
أنا نور من النمسا وهذه كانت قصتي.