آنا هانا إبراهيم

احد مقابلات حزمة: قصص عن الانتماء,
Original Interview Length:
سجلت هذه المقابلة في: هولندا
فريق الانتاج:
المواد المتوفرة لهذه المقابلة:

اسمي آنا هانا إبراهيم، من دمشق، سوريا، تخرجت من كلية الإعلام بجامعة دمشق سنة 2005. كان طموحي كبيراً مثل كل الشباب في عمري. وبتحدي كل الظروف التي مررت بها استطعت تأسيس شركة محاكات أصوات "دوبلاج" في سوريا عام 2010، وبعد سنتين من التعب والجهد لمع اسمي واسم شركتي وبدأت أعمل على مستوى أعلى بكثير مما كنت.

ومع بداية الثورة السورية، كنت متحمسة جداً للحرية، أحلم بحياة كريمة، وبدون قلق وخوف من الحيطان التي لها أذان. أتذكر أول يوم خرجت في مظاهر وهتفت: الشعب يريد اسقاط النظام، شعرت حينها أني كنت أعيش بلا صوت، ولكن عند أول هتاف حقاً شعرت بصوتي الحقيقي يتصاعد بسماء دمشق، في هذه اللحظة فقط شعرت بطعم الحرية.

في العام 2013 سافرت إلى بيروت كي يستمر عملي، كنت أقضي تقريباً أسبوعين في بيروت وأسبوعين في دمشق، في هذه الفترة درست الإخراج الوثائقي في بيروت. طبعاً كسورية وفي هذه الأوقات الصعبة والتي كانت مغلقة فيها كل الدنيا بوجهنا، كنت أفكر إذا انتهت فترة صلاحية جواز سفري كيف من الممكن أن أجدده؟ وكيف يمكن أن أحمي نفسي من ضياع الهوية؟ على الرغم أني كنت مستثمرة في بيروت وكان لدي عمل، وكنت أدخل مبالغ جيدة شهرياً إلى بيروت كونه لدي شركة ولدي موظفين، مع كل ذلك لم يقبلوا منحي إقامة في بيروت.

القلق دفعني وبعد الانتهاء من كل التزاماتي أن أترك وأرحل دون أن ألتفت للوراء، لأنه في البداية ضاع الوطن وخوفي كبير أن تضيع الهوية، ومثل كل الناس كان البحر هو الحل الوحيد لإيجاد الوطن والهوية، ومفهوم الوطن والهوية هما بالطبع الانتماء بمفهومي.

تركت بيروت وبدأت رحلتي بالبحث عن وطن وهوية وانتماء، قطعت الطريق من تركيا باتجاه اليونان، وبهذه اللحظة عرفت أنني خسرت كل شيء وولدت من جديد، تحديداً عندما أتلفت الحكومة اليونانية أوراقي الثبوتية واعتبرتها مزورة بحجة أن شكلي لم يكن سوري. حجزت تذكرة طائرة ودخلت إلى اليونان بهوية إسبانية، لم يسألني أحد شيئاً، لست أدري إذا كان من حسن حظي أن تتأخر الطائرة ساعتين والناس بدأوا يتوترون، وبدأوا يدخلون الناس إلى الطائرة دون تفقد، فقط يمررون التذاكر على الجهاز ويمشي الناس، وفعلاً رأوا بطاقة الطائرة الخاصة بي وانطلقنا باتجاه ميلانو، لأني كنت قد حجزت من أثينا إلى ميلانو ثم إلى هولندا. في اللحظة التي أقلعت بها الطائرة لم أصدق نفسي، أن هوية مزورة تأخذني إلى هولندا بهذه البساطة، وهويتي الأصلية تسقط في جزيرة يونانية.

عندما تصل أنت إلى دولة أوروبية فليس لديك أي شيء آخر تقوم به سوى أن تنتظر لتبدأ حياتك من جديد، حياتك التي جئت بحثاً عنها، بهذه اللحظة الخاصة بالانتظار، فترات الانتظار القاسية التي تكون علينا كمغتربين تبدأ الذاكرة لعبتها معنا، وتفتح جراحاً مؤجلة. فبعد انتظار مدة أربعة أشهر استلمت حق الإقامة في هولندا كلاجئة سياسية، وبعد أسبوعين من حصولي على الإقامة اتصلت بي شركة البيوت من أجل السكن لتوقيع العقد والانتقال إلى بيتي الجديد، لأبدأ حياتي التي جئت بحثاً عنها.

وبسبب حالتي الصحية، البيت لم يكن أبداً مناسباً لوضعي، وطبعاً لا يمكنك أن تعترض، وريثما رتبت أمور المنزل عشت عن أحد أصدقائي، بحيث أذهب قليلاً للعمل في البيت ثم أعود إلى أصدقائي، وفي هذه الأثناء التي كنت أرتب فيها البيت تعرفت على سيدة كبيرة بالعمر تعمل في منظمة لدعم اللاجئين، تساعدنا على حل المشاكل عندما نسكن في البيت، مثل المشكلات التي كنت قد وقعت فيها مع شركة الكهرباء والغاز والماء. هذه المرأة عرفني عليها شاب سوري يعمل مترجماً في ذات المنظمة، إلى الآن أتذكر هذا اليوم، من المستحيل أن أنساه، لأنه يومها ذلك الشاب قال لي سوف أعرّفك على "دوري"، "حمّالة الأسيّة"! وفي وقتها لم أفهم قصده إلا حين تعرفت على هذه المخلوقة التي تدعى "دوري". دوري، عمرها 65 سنة، لديها ابنتان تقريباً من نفس جيلي، وقفت إلى جانبي بقوة، ودعمتني كثيراً ريثما استطعت السكن بالبيت.

فعلا انتقلنا أنا وصديقتي إلى بيتي وبدأنا نرتب أشيائنا في البيت، وكنا ليلاً نركب غرفة النوم، وكان ثمة فوضى وكركبة في البيت، طبعاً لم نستطيع تركيب الغرفة أنا وصديقتي وقلنا أنه في اليوم التالي سوف نحاول أن نستعين بأحد لتركيبها. تركنا كل شيء وذهبنا إلى النوم. وفي اليوم التالي عند الساعة 8 صباحاً رن الجرس، وفتحت الباب فكان هناك موظف من البلدية ومسؤولة الدخل الخاصة بي يقفون عند الباب، جاءوا لمقارنة الفواتير التي قدمتها مع المشتريات، لأن البلدية تمنح قرضاً من أجل فرش البيت، وهناك بلديات تدقق على هذه القصص وتطلب فواتير تفصيلية من أجل المقارنة فيما بعد الشراء. سمحت لهم بالدخول إلى البيت وأنا أشرح لهم عن الأغراض، وأشرت لهم هذه الغسالة وهنا الغاز وهذه النشّافة وهنا البراد، ولكنهم كانوا ينظرون إلى أشياء أخرى دون أي اعتبار لكلامي.

غضبت وطلبت منهم بانفعال: إذا سمحتم اخرجوا من منزلي، بالنهاية طردتهم، سلموني ظرف بيدي ثم غادروا، وأثناء خروجهم من البيت فقدت الوعي وصارت عندي مشكلة التنفس، واتصلت صديقتي بماما دوري وأخبرتها بما حدث بسبب التعب، جاءت ماما دوري ومعها الإسعاف ولا أنسى دموعها في ذلك اليوم، بينما يحاول الإسعاف أن يعيد لي الأوكسجين بعد ما انقطع نفسي حين فقدت الوعي، أغمى عليّ لأني تنفست بطريقة خاطئة فانقطع النفس عندي.

مرت الليلة بسلام، وتمت السيطرة على وضعي، وهدأت ثم نمت كأني في عالم آخر، شعرت أني أحلم، شعرت وكأنها أحلام يقظة. استيقظت صباحاً وكان يجب أن أكون في بلدية المقاطعة الساعة 8 صباحاً. أول سؤال كان هو أنهم أروني فيديو أظهر فيه، طبعاً بحكم عملي كصحفية ومراسلة يوجد لي فيديوهات كثيرة، وبالتحديد هذا التقرير كنت قد أنجزته لتلفزيون أورينت عن الانتخابات الهولندية، وبشكل طبيعي أكيد أنا أخبر ماما دوري بكل تفصيل أقوم به حتى أكون قد حميت نفسي، بحكم أنها تقدم لي المساعدة باسم منظمة فلا أريد أن أؤذيها أو أؤذي نفسي، وكنت قد أخبرتها أني أقوم بإنجاز شيء لهذه القناة، عسى أن أحصل على فرصة عمل، كعقد. وهم طبعاً فاجأوني بعدد من الأسئلة المتعلقة ببعض منشوراتي في فيسبوك منذ العام 2014 إلى اللحظة التي يتم فيها التحقيق معي.

انتهى الموضوع هنا بتوقيف الدعم المالي، ومطالبتي بمبلغ 10 آلاف يورو كغرامة، ولكني لم أكن أعرف لماذا ولم أكن أفهم سوى أنني لم أكن ملتزمة في سكنى بالبيت. أتذكر إلى هذه اللحظة التي أحكي لكم فيها هذه القصة: عندما وقفت ماما دوري وقالت للموظفين هذه البنت من اليوم هي ابنتي وإذا أصابها مكروه أنا من سيحاسبكم. أخذتني وغادرنا من البلدية بشكل مباشر، أنا كنت مصدومة ولم أكن أصدق ما سمعته منها، بصراحة في ساعتها شعرت أني أنتمي إلى هذه العائلة، شعرت بمسؤولية تجاهها وتجاه بناتها وحتى أحفادها، هذا اليوم خلق ألفة ومحبة بيننا كبيرة جداً وجدت عائلة تحتضني بعد ما كنت ضائعة ولا أستطيع الانتماء إلى شيء، بهذا اليوم شعرت أن هناك أشخاص أخاف عليهم ويخافون عليّ.

وأخيراً أصبح لدي وطن وانتماء لعائلة احتضنتني ودعمتني ووقفت إلى جانبي، بشكل يستحيل أن أستطيع وصفه. بصراحة أنا أشعر بالانتماء إلى هولندا لأني أشعر أني مواطنة، مواطنة لها حقوق كما عليها واجبات وأن القانون ينفذ على الجميع، لا يوجد غني وفقير وكبير وصغير. حقيقة أتمنى أن يتحقق هذا الشيء في بلدي الأم سوريا، التي يستحيل أن أنساها أو أتخلَى عنها حتى لو أصبح لدي وطن وهوية جديدة.

هذه كانت قصة أمي الهولندية، وهي جزء من حكاية رحلتي إلى هولندا وانتمائي لها.