روان الفرخ

احد مقابلات حزمة: قصص عن الانتماء,
Original Interview Length:
سجلت هذه المقابلة في: هامبورغ, ألمانيا
فريق الانتاج:
المواد المتوفرة لهذه المقابلة:

أنا روان الفرخ، عمري30 سنة، من مدينة دمشق في سوريا، خريجة كلية الإعلام بجامعة دمشق، عملت في سوريا في مجال الإعلام لعدة سنوات، وفي عام 2015 قررت الهجرة لأسباب خاصة، وأنا متواجدة في ألمانيا حتى اليوم، وقد تنقلت بين مدن كثيرة ومقاطعات مختلفة، وحالياً أعيش في مدينة "هامبورغ" في الشمال الألماني. وأثناء تواجدي في ألمانيا عملت بمجالات عديدة، وحاولت الاندماج بالمجتمع الألماني، لأن هدفي الوحيد كان تعلم لغة المجتمع الألماني وأن أندمج فيه. لذلك عملت في إذاعة ألمانية لفترة محددة، وبعد ذلك انتقلت للتدريب في صحيفة ألمانية، بعدها تدربت في تلفزيون ألماني، وحالياً أنا أعمل مع مؤسسة ثقافية تهتم بدعم الثقافة العربية في بلدان المهجر.

منذ لحظة وصولي إلى ألمانيا، فرضت عليّ الظروف أن أكون موجودة في مدينة تقع في الشرق الألماني، وكان سكان هذه المنطقة معروف عنهم التعصب كثيراً، أي أنهم لا يقبلون أي غريب ليس ألمانياً أن يدخل إلى مناطقهم أو يشاركهم في حياتهم اليومية أو ينتمي إلى مجتمعهم، فهم جداً منغلقين على نفسهم. وكان دائماً يلازمني شعور بأنني غير مرحب بي في هذا المكان أبداً، وكانت هذه هي البداية التي كانت بالنسبة لي صدمة تشكلت منذ لحظة وصولي. كنت أفكر دائماً بكيفية الاندماج بهذا المجتمع إذا كان أفراده لا يساعدوني، ولا يريدون أن أكون بينهم أصلاً.

بقي الوضع هكذا إلى أن بدأت بدورات تعليم اللغة الألمانية، وخلال فترة تواجدي في المكان الذي تتم فيه الدورة، كان إلى جانبه مشروع بناء قيد الإنشاء، وهناك رجل عجوز ألماني عمره حوالي70 سنة، كان دائماً متواجد بشكل مستمر، وكلما كنت أدخل إلى المبنى، الذي أتعلّم فيه اللغة، كان يبادلني ابتسامة لطيفة، وبالمقابل كنت أبتسم له ثم أكمل طريقي، إلى أن وصلنا ليوم بدأ يتحدث إليّ، وكان قد شعر أن لغتي الألمانية ضعيفة، ودائماً كان يحاول أن يستعين باللغة الإنكليزية حتى يوصل لي الفكرة التي يريدها. هذا الشخص كان لطيفاً جداً معي بالتعامل، وساعدني كثيراً لتعلم اللغة الألمانية بما أنني كنت أراه بشكل يومي، وكان كل يوم صباحاً قبل دخولي إلى الدرس يكون واقفاً ينتظرني، وغالباً ما كان يتذكرني بهدية صغيرة، مثلاً مرة أحضر لي نظارات شمسية، ومرة أخرى كانت تمطر فأحضر لي قفازات شتوية، ودائماً في الأعياد والمناسبات كان يحضر لي الكيك التقليدي أو الحلويات التي يعدونها، كذلك كان يحضر لي دائماً كتباً تساعدني في تعلم اللغة الألمانية،، لقد كان لطيفاً جداً معي، وكان دائماً يقول لي نصائح عن كيفية تعلم اللغة الألمانية بشكل أسرع، كيف يمكنني أن أدخل في المجتمع الألماني، كيف يمكنني التعامل مع الألمان الموجودين هنا، فكان هو وزوجته يحبوني ويحبون التعرف أكثر عليّ وعلى نمط وأسلوب حياتي، ويقدمون لي المساعدة.

إضافة إلى ذلك كان دائماً يحكي لي عن بناته اللواتي كن يعشن بعيدا خارج ألمانيا، وفي أحد المرات تكلمنا مكالمة فيديو معهن، كان دائماً يعطيني "إحساس الأبوّة"، بالإضافة إلى أنه كان بشكل مستمر يرسل لي الرسائل على الموبايل، رسائل الدعم المعنوي، مثلاً: "نحن دائماً إلى جانبك، أنا وعائلتي. أي مشكلة ممكن أن تواجهك نحن هنا لا تخافي، نحن معك"، وهكذا استمرت علاقتي معهم لمدة ثلاثة أشهر، إلى حين جاءت مناسبة الاحتفال بنهاية عام 2016، آنذاك سألني قبل ليلة رأس السنة بأيام: "أين سوف تقضين هذه الليلة"، فأجبت بأنه ليس لدي مكان، فأنا لا أعرف أحد هنا، وإذا كنت أريد الذهاب إلى معارفي فهم في منطقة بعيدة من هنا، وليس لدي رغبة بذلك.

فقال لي: "ما رأيك أن تأتي لتقضي تلك الليلة معنا أنا وعائلتي؟ فبناتي سوف يأتين أيضاً"، تشجعت للفكرة، ووافقت بحماسة، فسألني حينها إذا كنت أفضل أكل لحوم معينة، وسألني عن تفاصيل أخرى حول سهرة توقعت أن تكون ممتعة. ثم أخبرني أن ابنته سوف تكلمني قبل الموعد بيوم لنتفق كيف نلتقي لتحضرني إلى منزلهم بسيارتها، وأنها ستتحدث معي حول كل التفاصيل". وحين جاء هذا اليوم وأنا أنتظر التواصل مع أحد من عائلة الرجل، لكن لم يتواصل معي أحد، وتوقعت أن يتصلوا في اليوم التالي لأن السهرة سوف تكون ليلاً، ثم قلت انهم من المؤكد سوف يتصلون خلال النهار. ولكن لم يتصل أحد، خمنت أن يكون قد نسي أو أضاع رقم موبايلي، فقررت أن أتصل أنا به، وبالفعل اتصلت وكان موبايله مغلقاً، حاولت الاتصال على الهاتف الثابت الخاص ببيته، وأيضاً لم يجب أحد أبداً، ولم أكن أعرف ماذا سوف أفعل، ومضى رأس السنة، ومضت تلك الليلة، ولا يوجد أي خبر منه مع محاولات تكرار الاتصال به وكان هاتفه مغلق دائماً.

لم أكن أعرف ماذا يجب أن أفعل، وأسأل نفسي لماذا فعل ذلك؟ هل من المحتمل أن تكون عائلته قد رفضت وجودي في ليلة رأس السنة أو هناك مشكلة… ولكن كان يجب أن يصارحني بذلك في النهاية، وبالتأكيد لن أزعل إذا قال لي بأنه يعتذر مني لعدم قدرتهم على استقبالي في هذا اليوم.

كنت في تلك الليلة قد أحضرت هدايا له ولبناته ولعائلته، كانت هدايا صغيرة بمناسبة رأس السنة. وبعد بضعة أيام من ذلك عدت للذهاب إلى "كورس اللغة"، واستغربت كون البناء الذي يعمل به صديقي كان مغلقاً بشكل نهائي، ولا يوجد أي أحد به، ولم يكن هو متواجد أيضاً! وحاولت أن أسأل أشخاص بالمحيط، ومنهم شخص كان معنا في مكان تعليم اللغة وكان مشرفاً، أخبرته أن في ذاك البناء كان ثمة عجوز... إلخ، فقال لي أنه لا يعرف أية معلومات أبداً عنه، وأفترض احتمالاً أن يكون قد سافر ذاك العجوز، أو انه انتقل إلى منطقة أخرى، أو قد وجداً عملاً في مكان بعيد من هنا.

ومرت الأيام وكنت دائماً أثناء فترة تواجدي في المنطقة التي فيها بناء تعليم اللغة، كنت بشكل مستمر أمر على المكان الذي يكون هو فيه عادة، أي مكان عمله، ولا أجده! وكان لدي فضول كبير لأعرف أين هو؟ فجأة اختفى! لأن الحماس الذي كان يتكلم معي من خلاله، كان بأسلوب مشاعر الأبوّة، وهو يردد: "نحن دائماً إلى جانبك… نحن سوف نساعدك"، فاستغربت أين ذهب كل ذلك، ماذا حدث.

ومرت الأيام والسنوات من 2016 إلى الآن، تقريباً منذ أربع سنوات كانت هذه القصة، وإلى الآن هذا الشخص لا يغيب عن بالي أبداً، لأن هذا الشخص في تلك المرحلة، كان بالنسبة لي كبارقة أمل، ودافِع وداعم لي في تلك الفترة، ريثما أتمكن من الوقوف على قدمي، فأحسست أن هذا الشخص كان قد بعثه الله لي من أجل أن يمسك بيدي، يساعدني بالخطوات الأولى، ويشعرني أنه لازال هناك أناس يحبون المساعدة، يحبون أن يكون بينهم غرباء.

إلى الآن هذا الشخص لا يذهب أبداً من بالي، وإلى الآن أبحث هنا وهناك، حتى على موقع فيسبوك حاولت البحث على اسمه واسم الشركة التي يعمل بها… فدائماً هذا الشخص في بالي، وإلى الآن أنا أتمنى أن أعرف أين هو، أين ذهب؟ حتى أني أتمنى أن أشكره، لأنه كان بالنسبة لي في البداية كداعم كمحفز.

ومرت السنوات وإلى الآن لا أعرف أي شيء عن هذا الشخص..

وهذه كانت قصتي.