أنيس حَمدون

احد مقابلات حزمة: قصص عن الانتماء,
Original Interview Length:
سجلت هذه المقابلة في: برلين, ألمانيا
فريق الانتاج:
المواد المتوفرة لهذه المقابلة:

اسمي أنيس حمدون، عمري 35 سنة، سوري أعيش في برلين بألمانيا، وأعمل مخرجاً وكاتباً وأستاذ في أكثر من مكان لمادة التمثيل.

أنا من مدينة حمص، والحماصنة لا يدركون كم هم مميزين! فحمص هي المكان الذي يحوي الظرف والظرفاء، إنهم أصحاب النكتة التي تقول: بما أنهم حماصنة فليس لديهم حاجة للسكنى خارج حمص، وهذا شيء مضحك بالنسبة لي، وأنا أرى حمص مدينة كاملة من الشخصيات المسرحية.

بعد ما خرجت بعد الثورة السورية إلى ألمانيا، الصدفة أوصلتني إلى مدينة اسمها "أوسنابروك". وهي مدينة عدد سكانها 170 ألفاً، مدينة ليست كبيرة بل صغيرة بمقاييس المدن الألمانية. وما حدث هو أني عندما وصلت إليها في نهاية العام 2013، كانت المدينة التي سميتها "مدينتي الألمانية" يعني أنني من هذه المدينة، وبالنسبة لي فثمة قصة لهذا تطورت خلال وجودي في ألمانيا الذي بلغ الآن 7 سنوات.

وصلت إلى "أوسنابروك" وأنا أتكلم اللغة الإنكليزية، كان هناك فرقة مسرح بريطانية ناطقة باللغة الإنكليزية، وهي من القلائل جداً في منطقة شمال غرب ألمانيا، عندما وصلت بعد أسبوعين كانت تقوم ببروفات، فشعرت أنها تُذكرني كثيراً بفرقة المسرح العمالي في حمص التي أسسها جدي لأمي: "فرحان بلبل" في عام 1973.

مع الوقت تعلمت الألمانية وعملت في أمكنة كثيرة، ومع تعلم اللغة، وأنا كنت شخصياً أكره اللغة الألمانية، أكره موسيقي ولحن اللغة الألمانية مقارنة بالإيطالية والإسبانية والفرنسية، وعندما وصلت كان لدي قرار أنه يجب أن أتعلم، أريد أن أعمل، بالنهاية أنا مخرج وأريد أن أقوم بعملي وأكتب وأدرّس وأتحرك. ويوم بعد يوم تطورت العلاقة بيني وبين هذه المدنية، حتى شعرت أنها وطني البديل، المدينة البديلة عن حمص، وعندما تعلمت الألمانية وأصبح مستواي جيد جداً، استطعت أن أقوم بتواصل أكبر مع المواطنين في هذه المنطقة حيث الناس لطفاء للغاية، والمدينة لها قصة، وهي أنهم يسمونها "مدينة السلام" لأنه تم فيها معاهد السلام الخاصة بحرب الـ 30 عاماً والتي وقعت عام 1648، فحتى المدينة لها بُعد تاريخي يشبه ما لحمص، بعد ذلك جاء أهلي إلى المدينة وسكنوا فيها، فأصبحت بالنسبة لي حمص تماماً. حتى أني أذكر في مقابلة بالتلفزيون وصفتها باسم: "أوسنابروك العَديّة"، على نسق ووزن "حمص العَديّة"، والتي تعني أنه لا يمكن الاعتداء عليها، هكذا يقول أهل حمص عن مدينتهم.

زاد انتمائي لمدينة "أوسنابروك" عندما عملت في مسرح المدينة في الوقت الذي كان الدخول إليه صعب جداً. وفي مسرح المدينة قمت بالتدريب، وكان هناك امرأة من العاملين بالمسرح رأت مشروع كنت أكتبه لفيلم، قالي لي: تعال قدمه عندنا. وكنّا نجرّب بعضنا، وعندما قدمت المسرحية، أخذت جائزة أفضل نص وعرض ألماني بين النمسا وسويسرا، وعرضت في برلين وفرانكفورت وميونيخ، واشتهرت بشكل كبير في المدينة، وبلحظة من اللحظات تحولت من مواطن في هذه المدينة إلى مشهور في هذه المدينة، فكنت أمشي في الشارع وأرد التحية من ناس لا أعرفهم، ولكنهم كانوا يعرفوني بشكل جيد. وحتى الآن عندما أذهب لزيارة هذه المدينة وأكون في مطعم أو مقهى، يأتي إلي أحدهم ويقول: "مرحبا سيد حَمَدون، أنا فلان الفلاني، أنا أعرفك وشاهدت لك أعمالاً، أشكرك وأحسنت". وهكذا أصبحت علاقتي بالمدينة قوية، عندما عملت في مسرحها، وفي التلفزيون اشتغلت لهم برنامجاً وعلّمتُ في مدرسة هناك، حتى أني درّست اللغة الألمانية في إحدى مدارس المدينة الإعدادية الثانوية.

عملياً الشيء الذي شهرني في ألمانيا وأوروبا أني أنا أنيس حمدون الكاتب والمخرج، أو الفنان في هذه المدينة الصغيرة. والمفارقة الأكبر، أن خالي نوّار بلبل، الذي هو أيضاً مخرج وممثل مشهور ومن الظرفاء الحمصيين، عندما ذهب للدراسة في المعهد العالي للفنون المسرحية في دمشق، أصبح يعود كل أسبوع إلى حمص، رغم أنه عاش هناك وتزوج واستقر، إنما في العودة إلى حمص كان يأخذ الطاقة من أهله ومن أصدقائه القدامى، فأنا عندما جاء أهلي وسكنوا في المدينة، وبعد ذلك لأسباب حياتية انتقلت إلى برلين، أصبح لدي احساس أن حمص هي أوسنابروك بشكل واضح وبرلين هي دمشق.

برلين المدينة التي تعيش فيها وتستمتع كما دمشق، لكن جذورك من جهة الأب والأم وأصدقاء الطفولة في حمص، وفي ذات الوقت لدي أصدقاء ألمان منذ 7 سنوات وأنا أعرفهم ويتصلون بي للسؤال إذ كنت قادماً إلى "أوسنابروك" (التي أسميها "حمص")، فهل تمر لنلتقي لنشرب قهوة… بيرة…وإلا ياويلك..! "أنيس مشتاقين لك". فأنا أوتوماتيكياً عندما أقول حمص أقصد أوسنابروك وبالعكس، حمص العدية، أوسنابروك العدية. مثلاً الأسبوع المقبل أنا سوف أذهب إلى "حمص" لألتقي أبي وأمي وإخوتي وأبنائهم، وكاتارينا التي هي صديقة عزيزة جداً مع زوجها وأعرفهم منذ العام 2014، أرسلت لي على سبيل المثال: "يا أنيس منذ زمن لم تزر أهلك…"، وتقصد أن ازور أهلي وازورهم.

جاري في الحي هو عمدة المدينة، وأعرفه بالصدفة فقد حضر لي مسرحية، تعرفنا على بعضنا البعض بشكل سريع حين كنت أقوم بمسرحيات في مسرح المدينة وأحصل على جوائز عندهم، وفي لحظة من اللحظات كنت، أعرف محافظ المدينة وفي نفس الوقت أصعد في الباص ولا أستخدم السيارة، واستخدم البطاقة وعليها اسمي فيقول لي: "ولو أنت من عنّا، أنت حمصي، أوسنابروكي، نحن نعرفك لا داعي للبطاقة تفضل!"

علاقتي بهذه المدينة، حقيقة ممتعة، لأني أحنّ إليها، أكون في برلين لشهرين وفجأة أشعر أنه يجب أن أعود إلى البيت، يكون بيت أبي وأمي والذي لم يعد موجوداً في حمص بل موجود في أوسنابروك.

ربما هي محاولة، ربما أنه لدي قناعة تامة أني لن أستطيع زيارة حمص لأسباب سياسية، لأسباب ثورية، لأسباب أني مُعرض للخطر، وبالتالي يبدو أن أوسنابروك حوّلت نفسها، هي ولست أنا، حوّلت نفسها إلى حمص صغيرة، إلى حمص ألمانية، إلى حمص التي لن أستطيع رؤيتها، إلى حمص التي أشعر بها حين أختنق من برلين وزحمتها، وأول مكان أفكر به هو أوسنابروك، هيا لنتكلم مع الأهل والأصدقاء هناك، يجب أن تجدوا لي عملاً أريد العودة إليكم إلى البيت، فهذه هي أوسنابروك العدية، هذه علاقتي بألمانيا.

أنا أنيس حَمَدون، كاتب ومخرج وهذه كانت قصتي.