اسمي تسنيم الخطيب، عمري 34 سنة، مقيمة في الدنمارك منذ العام 2017، خريجة كلية الإعلام جامعة دمشق، عملت في أشياء كثيرة ليس لها علاقة بالإعلام حتى السنوات الأخيرة التي سبقت الثورة السورية، حيث بدأ يحدث انفتاح ولو بشكل ظاهري في سوريا، ونتج عن هذا الانفتاح صحف خاصة وإذاعات خاصة وإن لم تكن حرة تماماً، مما أتاح لي فرصة أن يكون لدي تجربة في "التحرير الصحفي"، فعملت كمحررة لعدة صحف ومجلات موجهة للأطفال، بعضها لم يرَ النور طبعاً، لأنه كان هناك شروط معينة وانتماءات معينة، يجب أن تتوفر لديك كي تعمل في القطاع الإعلامي بسوريا ما قبل الثورة، لم تكن تلك الشروط متوفرة بي، ولم تكن تتوفر في الكثير من الأشخاص من خريجي كلية الإعلام، من تلك الشروط مثلاً أن تكون منتمِ إلى حزب البعث أو غير ذلك…
اكتشفت أنه لا يوجد لدي قصة مع الانتماء بقدر ما لدي قصص عن سلسلة من النزوحات والترحيل، بدأَ من أجدادي الذين نزحوا من قرية الطنطورة في قضاء حيفا إلى سوريا، ومن بعد ذلك سافر كل من أبي وأمي إلى ليبيا، وبالتالي أنا ولدت في تاجوراء في منطقة تقع ضمن قضاء طرابلس الغرب، ولكن للأسف مرة أخرى تم ترحيل أبي وأمي بأوائل التسعينيات من ليبيا، فأنا لا أتذكر شيء عن تلك الحقبة، ولم أكن أتخيل أنني سوف أكمل هذه السلسلة من النزوحات أو الترحيل الإلزامي.
عشت في مخيم اليرموك، ودرست في مدارس الأونروا الخاصة باللاجئين الفلسطينيين وصولاً إلى البكالوريا ولم يكن لدي مشكلة بالانتماء، لأن انتمائي كان واضحاً للمجتمع الذي كنت أعيش فيه في مخيم اليرموك، الذي يعتبر وطناً بديلاً ومن أكبر التجمعات للفلسطينيين في العالم. إضافة إلى أن القوانين السورية لم تكن تفرق بين السوري والفلسطيني، ولكن في وقتها لم أكن أدرك أن السوريين أنفسهم لا يملكون شيء في سوريا! وإلى حد تلك المرحلة، كل ما هو محيط بي هو فلسطيني، فانتمائي كان واضحاً.
عندما وصلت إلى الجامعة، لن أقول لك أنني كنت أشعر أني غريبة، لكنني أحسست أني مختلفة، لهجتي مختلفة، أحاديثي مختلفة، اهتماماتي مختلفة، لأنها كلها تتمحور حول القضية الفلسطينية. في الجامعة اكتشفت أن هناك قضايا أخرى في الحياة، فدخلت أكثر في المجتمع السوري، وبدأت أفكر بأن احساسي ووطني لا أعرف عنه شيئاً ولا أراه سوى في نشرات الأخبار، فرحت أتساءل: أنا كفرد، أنا كتسنيم ماذا سوف أقدم للقضية الفلسطينية؟ ولماذا لا أنتمي للمكان الذي أنا موجودة فيه؟ المكان الذي أعيش فيه، الذي درست فيه، الذي أنا الآن محاطة به بسوريين، فماذا لو أنا أصبحت سورية؟ طبعاً تفكيري بذلك الوقت كان سطحياً قليلاً، لكني بدأت بالتخلي عن لهجتي الفلسطينية ورحت أحاول أن أتحدث باللهجة الشامية طوال الوقت، وقررت أنه من الممكن أن أكون شخص مفيد في المكان الذي أعيش فيه أكثر مما أنا مفيدة للقضية الفلسطينية. صرت أردد مع نفسي، على أنني سورية، ونجحت بالفعل بأن أشعر من داخلي أنني منتمية إلى هذا المكان، وأشعر بالانتماء لسورية، وأصبح تعاملي مع القضية الفلسطينية يشبه تعامل أي مواطن سوري معها، واستمر هذا الوضع أو هذا الاحساس بالانتماء إلى أن قامت الثورة السورية.
وعندما قامت الثورة السورية، للأسف عدت لأسمع بأنني فلسطينية، ولا يحق لي كثيراً أن أبدي رأيي بما يحصل في سوريا، رغم أنه يمسني بطريقة مباشرة، وخسرت مثلي مثل أي سوري أفراداً من عائلتي وبيتي. كان ذلك سواءً من المؤيدين أو المعارضين، فمن المؤيدين أسمع: "يا غريب كن أديب، أنت لا يحق لك أن تتكلم لأن دولة الأسد أعطتك حقوقك كسوري". أما المعارضين فكانوا يخافون على الفلسطينيين الذين لهم علاقة بالثورة السورية أكثر من خوفهم على أنفسهم، لأنهم يعتقدون أنك كسوري يمكن أن يُعرف أين أنت، ولكن كفلسطيني يمكن أن تذهب وراء الشمس ولا أحد يعرف عنك شيء. وهنا كانت الصدمة الأولى بالنسبة لي، فأنا فعلاً لست سورية! طبعاً ذلك لم يفقد شيء من انتمائي الداخلي، لكن على أرض الواقع، سبب لي ما يشبه العاصفة.
عندما قررت أن أخرج من سورية بسبب الحرب، بقي يرافقني حلم الوطن، يعني أنني سوف أخرج وأبحث عن وطن. اخترت مصر من أجل السفر، لأسباب كثيرة، لها علاقة بأنه معظمنا كعرب متأثرين بالثقافة المصرية. وعندما وصلت إلى هناك رحت ألعب ذات الألعاب التي كنت أقوم بها في سوريا، بمعنى أن لهجتي تحولت إلى مصرية، ودخلت أكثر إلى تفاصيل المجتمع المصري، مشاكله واهتماماته ثقافته كل ما يخص المصريين، لم يكن لدي مشاكل حقيقية إلى حد اللحظة التي كنت أثنائها في سيارة أجرة، وانوي الذهاب إلى مقر السفارة الفلسطينية الموجود في الإسكندرية، وأعتقد أنه كان في شارع مصطفى كامل. حينها لا أدري كيف اكتشف سائق التكسي أنني لم أكن مصرية من اللهجة، وسألني بشكل مباشر: هو حضرتك منين من الشام؟ ارتبكت لأن الفلسطيني غير مرحب به - طبعاً ليس من الشعب المصري - إنما التجييش الإعلامي الحكومي ضد الفلسطينيين في مصر كان يؤثر بطريقة أو بأخرى على الرأي العام المصري. ارتبكت ولم أعد أعلم ماذا يمكنني أن أقول، فقلت له: أنا سورية. وهنا قال لي بالحرف: كويس أنك من الشام … أنا افتكرتك فلسطينية، والفلسطينيين هم يهود!
سقطت مرة أخرى فقاعة الوطن البديل، واكتشفت مرة أخرى أنني لست مصرية، ومن السهل للغاية أن يكتشف أي أحد أمري، وأتذكر آنذاك أنني نزلت قبل موقع السفارة كي لا يكشفني. سلسلة من الحوادث خارج سوريا، سواءً في تركيا أو في اليونان فيما بعد وصولاً إلى الدنمارك، جعلتني أتخلى عن فكرة البحث عن وطن والبحث عن انتماء، لا سيما عندما وصلت إلى الدنمارك، وجلست لمدة عام كامل في الكامب الذي يحتوي على الكثير من الناس من بلدان كثيرة، كانوا قد تركوا بلدانهم لأسباب مختلفة حتى يتقدموا بطلبات لجوء في الدنمارك. هناك فعلاً رجعت أحسّ بالنشأة الأولى الخاصة بي في المخيم، أي مفهوم المخيم، لأنه في الكامب كان ثمة أناس يعيشون منذ سنوات، ويتعامل معه على أنه - بطريقة أو بأخرى - هو وطن لهم، أو أنهم يبحثون أيضاً عن الانتماء. في تلك اللحظة شعرت كم هناك من قضايا في العالم، سمعت عن بلدان لم أكن أعرف عنها شيء، سمعت عن ظروف لأناس كثر لم أكن أتخيل أنها موجودة في الحياة، وهذا ما أوصلني إلى فكرة: من قال إنني يجب أن أبحث عن وطن؟ من قال أنه يجب أن أنتمي وأتعاطف وأدافع عن مجموعة من الأشخاص بعينهم دون آخرين؟ لقد شعرت في تلك اللحظة أنني أنتمي للإنسان، وكنت لأول مرة عندما حصلت على الإقامة الدنماركية، أول مرة أفرح بكلمة "ستيتلوس" بلا وطن.
أنا بلا وطن ولكني أنتمي للإنسان أينما كان، انتمائك فعلاً لكل ما هو عادل في هذه الحياة، أو لكل ما هو جميل أكبر من حدود بقعة جغرافية أنت طوال الوقت تبحث عنها من أجل أن تنتمي لها.
هذه هي قصتي.