عمر

احد مقابلات حزمة: قصص عن الانتماء,
Original Interview Length:
سجلت هذه المقابلة في: لارنكا, قبرص
فريق الانتاج:
المواد المتوفرة لهذه المقابلة:

اسمي عمر، عمري 33 سنة، أنا صحافي وكاتب سوري، كنت أساساً منذ عام 2008 قد قررت المجيء إلى قبرص، لكن الظروف لم تكن مناسبة للأسف حتى دفعتني الأحداث في سوريا للسفر. فجئت إلى قبرص في شهر 12 عام 2015، واخترت هذه الجزيرة كي أعيش فيها، لأن إخوتي موجودين هنا من قبل عشرين سنة. واعتقدت بما أنه لدي أهل هنا فربما لن أشعر بالغربة، لكن الأمر كان مختلفاً تماماً لأن المجتمع هنا مختلف عن بلادنا في سوريا. هو قريب قليلاً من ناحية المناخ إضافة إلى بعض العادات والتقاليد المتعلقة بالطعام وطقوس التواصل، لكن الثقافة الخاصة والانعزال الذي تعيشه الجزيرة أثر بشكل أو بآخر على طبيعة المجتمع الذي لا يفضل التواصل مع الأجانب إلا بعد تعلمهم اللغة، ولذلك، تعلمت اليونانية في جامعة قبرص، وبقيت أذهب إلى هناك لمدة عامين تقريباً "سنة وتسعة أشهر"، وكان الكورس صعباً للغاية، أنا لا أتقن الإنكليزية، ولذلك تمكنت بشكل لا بأس به من التحدث باليونانية وكوّنت صداقات وعلاقات.

في قبرص شعرت أنني قريب قليلاً إلى بلدي، لم أشعر كثيراً بالغربة، اخوتي لعبوا دوراً جيداً لأني بقيت أتحدث إليهم بلغتنا، وأمارس الطقوس المتعلقة بتقاليدنا، ولكن بقي هناك مسافة غربة، مسافة صدمة ثقافية لطبيعة المجتمع هنا. أنا شخص اجتماعي إلى حد ما، ولكن هنا كنت بحاجة مفتاح يمكنني من التواصل مع المجتمع، الأجواء الخاصة بإخوتي لم تكن مناسبة لي، استقللت في منزل وعشت مع أخي الصغير الذي رافقني من سوريا، ولكن ذلك لعب دوراً سلبياً لأننا بقينا محافظين على انغلاقنا شبه اليومي لمدة ثلاثة سنوات، إلا أنني كسرت هذا الانغلاق عندما قطعت شوطاً في تعلم اللغة.

ومن باب تعلم اللغة أريد أن أحكي عن قصة عشتها أو أحداث عشت فيها لها علاقة بتعزيز شعوري بالانتماء لهذا المجتمع الذي أنا موجود فيه الآن. باعتقادي دائماً أن اللغة هي جسر للتواصل مع الآخرين، أي لغة كانت، سواءً لغة العيون أو لغة الإشارة أو لغة الموسيقى أو لغة الكتابة أو اللغة المعروفة التي هي لغة الكلام، فقررت أن أتعلم اليوناني وأبدأ من الصفر تماماً، من أجل استخدام هذه الأداة للحياة وللكتابة، في الوقت نفسه أنا مهنتي قائمة أساساً على اللغة، وأنا أتحدث لغتي العربية اللغة الأم، ولا أتحدث اللغة الإنكليزية.

عندما بدأت بتعلم اللغة اليونانية نشأت علاقة صداقة بيني وبين معلمتي الخاصة، التي لم تكن من الكادر التدريسي في جامعة قبرص، بالمناسبة أنا كنت أقطع مسافة 80 كم ذهاباً وإياباً كي أصل إلى الجامعة الموجودة في العاصمة نيقوسيا، بينما أنا أعيش في لارنكا، وكنت بحاجة لمن أرجع إليه في اللغة اليونانية، فكانت معلمتي خير موجه وخير صديق لتعطيني مفاتيح هذه اللغة، وكي أستطيع أن أشرح لها ماذا أريد من هذه اللغة وما الذي أريد تعلمه بالضبط وأين أريد التوجه. عززت هذه العلاقة بيني وبين معلمتي، حبي للغة بشكل بطيء وهادئ جداً، وكأنني أقوم بسقاية بستان في خيالي، بستان جديد بأزهار جديدة ورائحة جديدة ومعالم مختلفة.

بقيت أتعلم في جامعة قبرص وبقيت المعلمة تقوم بمراجعات لي، والمرة الأولى التي حاولت فيها أن أكتب باللغة اليونانية، فكرت بالعربي وحاولت أنقل الترجمة إلى اللغة اليونانية، لكن هذه المحاولة كانت نوع من التحدي للذات لي. لاحقاً عندما قطعت المرحلة الرابعة أو الخامسة في اللغة، بدأت أبحث عن مكان أجد فيه شغفي، وبالفعل ترددت على مكان يقرأون فيه الشعر. وقمت فيه بقراءة قصيدة لي باللغة العربية، وكان هناك قراءة مرافقة باللغة اليونانية، طبعاً ساهمت معلمتي في تحرير النص اليوناني بعد أن ترجمه صديق لي، كان هذا أول نص تتم ترجمته، وبالتالي شعرت أني موجود في هذا المجتمع من خلال اللغة ومن خلال سماع صوتي كشخص يكتب، كشاعر، ككاتب.

يعني ذلك أن مفتاح التواصل كان بالنسبة لي هو اللغة، لم أكن أشعر بأي غربة لها علاقة بالعادات والتقاليد وطبيعة الطعام، لأن إخوتي كانوا يغطون هذا الجانب، لكن التواصل الروحي والإنساني والتواصل الفكري كان عبر اللغة. اللغة اليونانية لغة صعبة كثيراً، لكنها ساحرة فيها موسيقى، فيها مناخ أدبي عالي.

لغتي الثانية هي اللغة اليونانية، وأنا من خلالها استطعت أن أفتح أبواباً كثيرة للتعارف على أصدقاء وأتبادل معهم الشغف، الشغف المشترك بالكتابة، وبالشعر، وبتبادل الأفكار الفلسفية وبتبادل الكتب وبالجلسات وبالحوارات، وبالجدل الذي كنت أعيشه في سوريا عندما كنت في أوج عطائي وأنا في الـ 29 أو 28 من العمر، كنت أعمل في التلفزيون وأعمل في الصحافة وأكتب، وأتحرك وأنا مستقل وحدي عن أهلي من حوالي 12 سنة، وعندما جئت إلى هنا فقدت أهم مفتاح لي وهو اللغة. وبعد ذلك تعبت على نفسي كثيراً وبمساعدة أصدقاء وبمساعدة الجامعة التي قدمت تسهيلات كبيرة جداً حتى أتعلم. لم يكن هناك برنامج للتعايش أو الاندماج، فصرت أطرق الأبواب وأبحث وحدي، لأن طبيعة قبرص أنها بلد ليس مهيأً للاجئين.

لم أكن أنظر إلى نفسي كغريب، كنت دائم النظر إلى نفسي كشخص يريد أن يطعّم هذه الثقافة بثقافته السورية، وأريد أن أطعّم ثقافتي السورية بالثقافة اليونانية، وأن أجعل المجتمع القبرصي قريباً مني.

في أحد المرات حدث موقف صغير عزز شعوري أيضاً بالانتماء، فقد كنت أتردد على مطعم يدعونه "بسيستيريا"، وهو مطعم قبرصي تقليدي يقع وسط لارنكا، فكنت أتحدث معهم باللغة اليونانية الفصحى، فسألتني صاحبة المكان: لماذا تتكلم الفصحى، هل أنت تركي قبرصي؟ قلت لها: لا، أنا لاجئ.

قالت: لاجئ، آه، من أين؟

قلت لها: من سوريا.

فأجابتني: معنى ذلك نحن إخوة.

قلت: كيف نكون إخوة، وحضرتك قبرصية؟

قالت: أنا قبرصية، لكني لاجئة أو نازحة من القسم المحتل "الكاثيخومينا" من شمال قبرص.

هذه المحاورة تركت انطباعاً في داخلي جعلني أرى نفسي قريباً من هذا المجتمع أكثر، ثمة من يقول لك: "نحن إخوة في اللجوء".

أنا عمر من قبرص وهذه كانت قصتي.