اسمي ساره الآغا، عمري اليوم أثناء تسجيل هذا المقطع في أيار 2020، 31 عاماً، أنا مواليد 1989. قبل أن أحكي عن تجربتي في الاندماج بمجتمع أوربي بعد الهجرة، يجب أن أحكي قليلاً عن أول عشرة سنوات من طفولتي، لأني خلال تلك السنوات العشر، كنت أنتقل بين دمشق والشارقة. دمشق ودبي، تقريباً كل سنة وأحياناً أكثر من مرة في السنة بسبب عمل والدي.
طبعاً في كل مرة كنت أنتقل على مدرسة جديدة وكان علي أن أبني علاقات صداقة جديدة، واستمر الوضع بالتنقل حتى داخل دمشق بعد أن استقرينا في سوريا عام 1999، أيضاً كنّا كل فترة ننتقل إلى مكان وتتغير المدرسة ويتغير الأصدقاء.
المكان الثابت في حياتي كان هو منزل "تيتا" جدتي. عام 2007 دخلت إلى جامعة دمشق، قسم اللغة الإنكليزية، وتخرجت عام 2011، وبعد التخرج مباشرة قررت أدخل المعهد العالي للموسيقا بدمشق، وأدرس الغناء.
الموسيقى في المعهد العالي بدمشق، تدرس لمدة خمس سنوات، وأنا من أصل خمس سنوات، درست ثلاثة سنوات فقط. لأني في العام 2015 اشتركت في مسابقة غناء هي مسابقة "مونتسيرات كابالي الدولية للغناء 2015" وحصلت على فيزا شينغن مدتها 15 يوماً. فعلاً سافرت في أيلول/ سبتمبر 2015، وكنت أول سورية تشترك في هذه المسابقة والعظمية "مونتسيرات كابالي" دعتني إلى المسرح وقالت لي: "أرجوك كوني سعيدة".
أنا لم أكن أعرف أي أحد في إسبانيا، لم أكن أعرف أين يجب أن أذهب أصلاً، كان هناك الكثير من المخططات ولكن اللجوء لم يكن خياراً بالنسبة لي، لأني لم أكن أرغب بحقي في زيارة سوريا وزيارة أهلي.
المهم، كثيراً من الأحداث تداخلت مع بعضها البعض والخيار الوحيد الذي بقي أمامي هو اللجوء في ألمانيا، وبحكم أن هناك عدد كبير من أصدقائي الموسيقيين، كانوا أصلاً قد وصلوا قبل مدة قصيرة إلى ألمانيا، وجدت أن هذا الخيار هو الخيار الوحيد المتبقي.
وصلت إلى برلين في 20 أيلول 2015 مساءً وفي صباح اليوم التالي كنت في مدينة "لايبسغ" عند أصدقائي الموسيقيين الذين أعرفهم من أيام المعهد العالي في سوريا. وبعد ما قضيت يومين عندهم، أصبح من الضروري تقديم أوراقي للسلطات الألمانية وأطلب اللجوء وبعد ما سألنا كان الكامب الرئيسي في ولاية "زاكسن" موجود في مدينة اسمها "كيمنتس".
حجزنا بالقطار في 23 أيلول وفعلاً ذهبت من "لايبسغ" إلى "كيمنتس". سافرت ساعة بالقطار وكانت هذه الساعة طويلة كثيراً، وكانت كل الأفكار تتخبط برأسي لأني لم أكن أدري إلى أين أتجه، حرفياً ذاهبة إلى المجهول!
وصلت على الكامب، وهو موقعه في منطقة متطرفة كثيراً في "كيمنتس" كان هناك حراسة وشرطة كثيراً أمام الباب، وبهذه الفترة كان هناك أعداد كبيرة من اللاجئين تصل إلى ألمانيا، سلمت أوراقي وبعد حوالي 3 ساعات انتظار في خيمة قريبة من باب الكامب، جاء تكسي ثم أخذونا إلى مكان يبعد تسعة دقائق عن الكامب الرئيسي، واكتشفت لاحقاً أنه بسبب الضغط افتتحه كحل اسعافي لأنه لم يعد يوجد أمكنة.
المكان كان عبارة عن خيم بلاستيك، حوالي 33 إلى 44 خيمة، ذاكرتي خانتني بالعدد الدقيق. في كل خيمة كان هناك حوالي 13 أو 14 لاجئ من مختلف الجنسيات. كان يحتوي المخيم على عدد كبير من الأطفال وكانت الظروف فيه سيئة كثيراً، برد، مطر، طين، وأحياناً في الليل تصل الحرارة إلى -5 كان البرد لا يطاق في الليل، أتذكر أنه لا يوجد ليلة في هذه الكامب نمت خلالها، وشعرت بالدفء! كان من غير المسموح إدخال وسائل تدفئة إلى الخيمة لأنهم كانوا يخافون أن تحترق.
أنا منذ أول يوم وصلت وهو 23 أيلول بدأت أعمل بالترجمة بين منظمة "الصليب الأحمر" واللاجئين، أحياناً يتم إيقاظي الساعة 3 أو 4 فجراً بسبب حالة طوارئ أو إسعاف وكانت الترجمة صعبة لأن معظم الألمان لا يتكلمون اللغة الإنكليزية بشكل جيد، خاصة في مدينة "كيمنتس".
كنت مثلاً إذا استخدمت كلمة مثل "هاي"، كانت النظرات مستهجنة جداً، وفيها رفض، ولكني كنت سعيدة جداً بالترجمة التي كنت أقوم بها، لأني لم أكن أريد الشعور أن الدنيا قد توقفت وكنت أشعر أني أقوم بشيء مفيد رغم أن حياتي الموسيقية في هذه الفترة توقفت كلياً، حتى تفكير بالموسيقى لم يكن بإمكاني أن أفكر، فكنت مسرورة أني أقوم بالمساعدة ولو بشيء بسيط من خلال ما درسته بيوم من الأيام.
أحد الأشخاص الذين كانوا يتكلمون اللغة الإنكليزية من الصليب الأحمر كان اسمه "روني كولبيه" كنت أعمل معه كثيراً لأنه كان من الأشخاص القلائل الذين يتكلمون الإنكليزية من "الصليب الأحمر" وبحكم أننا كنا نعمل طيلة النهار معاً أصبحنا أصدقاء، كنت أترجم مع جميع الجنسيات حتى هؤلاء الذين لم أكن أفهم لغتهم إن كان من باكستان أو أفغانستان أو ألبانيا. كنا نجد طريقة للتواصل مع بعضنا البعض فيها، لأننا بالنهاية كلنا بشر، وعندما نريد التواصل نستطيع أن نتدبر أمورنا بغض النظر عن اللغة.
"روني" أخذني زيارة إلى منزله وتعرفت على زوجته "ميندي" وابنته التي كان عمرها في حينها 13 عاماً "ليندا" وبعد عدّة زيارات طلبوا مني مرة أن أنام عندهم لأن البيت كان بعيداً عن الكامب حوالي 45 دقيقة ولسبب ما "روني" لم يكن باستطاعته إعادتي إلى الكامب في ذلك اليوم.
هذه الليلة التي نمت فيها في بيت روني أذكره جيداً لأنها كانت أول ليلة دافئة أنام فيها منذ فترة طويلة، كنت طول الليلة تلك، أشعر بالذنب لأن أصدقائي في الخيمة لم ينعموا بالدفء الذي أنا فيه.
وبعد فترة من الزيارات أتفاجأ أن "ليندا" تأخذني من يدي إلى غرفتها كي تريني خزانتها التي أفرغت منها قسماً، مشيرة باصبعها أن هذا القسم لي، أي أنها أفرغت لي مكاناً لأضع أغراضي فيه وبعد ذلك فتحت سريرها وأصبح أكبراً حتى يتسع لشخصين وبدون أي كلمة -كونها في تلك الفترة لم تكن تريد التكلم بالإنكليزي- فهّمتني أنني سوف أعيش معها في الغرفة، وفعلاً "روني" أخبرني بالموضوع وطلبوا مني أن أبقى عندهم.
بقيت أعيش عندهم 8 أشهر إلى أن أصبحت أوراقي جاهزة ثم استأجرت منزلاً وحدي، وطبعاً نحن إلى الآن أصدقاء وعائلة وحدة. حياتي عندهم ساعدتني كثيراً كي أندمج بسرعة، تعلمت اللغة بوقت قياسي، وأيضاً تعلمت عندهم كيف أتعامل مع البيروقراطية الألمانية، تعلمت أتعامل مع المؤسسات والموظفين، تعلمت كيف أكتب الرسائل وإلخ… من الأعمال الورقية.
كنت أذهب مع "روني" إلى الكامب كل يوم كي أترجم حتى تم إغلاق الكامب الذي كنا فيه ونقله إلى منطقة ثانية، خلال هذه الفترة كنت أنا و "روني" نذهب إلى محطة القطار مع مجموعة اسمها "كيمنتس فيلكومنغستينس" وكنا ننتظر اللاجئين هناك في محطة القطار حتى يصلوا لنأخذهم إلى الكامب الرئيسي كي نسهل العملية عليهم بحكم أن الكامب الرئيسي بعيد عن المدينة كثيراً. ومن هذه المجموعة تعرفت على محامي والده سوري ووالدته ألمانية اسمه "بيتر".
ابنة "بيتر" كانت تأخذ دروساً على البيانو عند معلمة بيانو اسمها "أنجليكا مسشليف" هذه المعلمة كانت تبحث عن مغنية كي تقيم مع طلابها حفلات وفعلاً تم التواصل معها عن طريق "بيتر" وابنته.
أنجليكا عرفتني على مغنية أوبرا أمريكية معروفة جدا في "كيمنتس" اسمها "دونا مورين" وعلى أحد طلابها الذين يعزفون على البيانو واسمه "ماكسيميليان ايليشليغا".
"دونا" و "أنجيلكا" أقنعوني بضرورة إكمال دراستي بالغناء. وفعلاً بدأت "دونا" تحضرني لفحص القبول، ودلتني على مدرسة الموسيقى في "كيمنتس" كي أحضر فيها حصص النظري وأتعلم المصطلحات الموسيقية باللغة الألمانية.
مديرة المدرسة اسمها "نانسي غيبسن" لاحقاً سوف تلعب بالصدفة دوراً مهماً جداً في حياتي.
بدأت رحلة التحضير مع دونا وتقدمت إلى الفحص في معهدين موسيقيين، الأول في مدينة "دريسدن" والثاني في مدينة "فايمر" وفعلاً بعد فترة جاء القبول الدراسي في جامعة ولكن حسبوا لي فقط فصلين دراسيين من الفصول الستة التي درستها في سوريا، وانتقلت من "كيمنتس" إلى فايمر وبدأت في 1 أكتوبر تشرين أول 2017 دراستي للغناء مرة ثانية في ألمانيا.
أنا الآن في الفصل الثامن وتخرجي بعد شهرين، دراستي لم تكن سهلة أبداً، لأني كنت أدرس وأعمل في نفس الوقت كي أستطيع أن أموّل دراستي، ومن يدرس في ألمانيا يدرك تماماً أن هذه الأمر ليس سهلاً أبداً.
بالنسبة لمديرة مدرسة الموسيقى في "كيمنتس" "نانسي غيبسن" كانت يوماً تحضر حفلاً لذكرى يوم السلام الذي تم فيه قصف مدينة "كيمنتس" في الحرب العالمية الثانية، الحفل كان موعده في 5 آذار 2017، طلبت مني أن أشارك مع موسيقيين ألمان في الحفل، لنرى إمكانية تقديم شيء مشترك معاً، وفعلاً التقيت مع "ماتيس شتينديكه" من "كيمنتس" و "يان هاينكه" من "دريسدن" واشتغلنا على شيء بسيط وقدمناه في "المارك بلاتس" في 5 آذار 2017، ويومها كان هناك الكثير من الناس حاضرة، والمفاجأة أنه بعد الحفلة طلب منا إقامة حفلات أكثر وبدأت تأتي لنا عروض لنقيم حفلات فقررنا أن نؤسس فرقة وسمّيناها "ياسما" أول حرفين من اسم كل واحد فينا " يا - سا - ما".
عام 2019 علمنا أول ألبوم لفرقة "يا سما" تستطيعون أن تجدوه أونلاين.
وأنا إلى الآن أقيم معهم حفلات، حتى أني أقيم مع "دونا مورين" التي كانت في يوم من الأيام أنستي، حفلات.
تعرفت على الكثير من الموسيقيين وأصدقاء لعبوا دوراً مهماً كثيراً في حياتي ووقفوا إلى جانبي.
وأصبحت فرقة "ياسما" معروفة في مدينة كيمنتس.
بالمناسبة أنا إلى أملك مفتاح بيت "روني" و "مندي" و "ليندا" وهم يحضرون كل حفلاتي، وأستطيع أن أدخل متى أريد إلى بيتهم كأنه بيتي.
أنا ساره الآغا وهذه كانت قصتي من ألمانيا.